فلسطين… حين يعلو الشعب على الرايات!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيبين صمود الأجيال وضياع التمثيل، يبقى الشعب الفلسطيني أصدق من كل الشعارات وأقوى من كل الفصائل.
الفصائل ترفع الشعارات، والشعب وحده من يدفع الثمن. لا يوجد في التاريخ الحديث شعب قدّم من التضحيات والبطولات ما قدّمه الشعب الفلسطيني، ولا يوجد مثال أصدق على الصمود والعناد الإيجابي في وجه القهر والخذلان كما هو الحال في فلسطين. هذا الشعب العظيم صاحب التضحيات، الذي توزّعت أجياله بين المنافي والمخيمات والشتات، ظل رغم الجراح محتفظاً بصلابة لا تلين، وبوصلة لا تنحرف عن حقّه التاريخي في الحرية والكرامة.
لكن المأساة الكبرى لا تكمن في الاحتلال وحده، بل في الفجوة المتسعة بين الشعب الفلسطيني الحقيقي، الذي يعيش النضال في تفاصيل حياته اليومية، وبين من يدّعون تمثيله على الساحة السياسية. فبينما يمضي الفلسطيني العادي في بناء حياته وتربية أبنائه والعمل في كل أرض فتحت له باباً، نجد كثيراً من منابر التمثيل غارقة في صراعاتها الداخلية ومصالحها الفئوية، وشعاراتها التي فقدت معناها.
لقد تحوّلت التنظيمات والفصائل، التي وُلدت ذات يوم من رحم المعاناة، إلى كيانات تتنازع على شرعية لا يمنحها إلا الشعب، وعلى رمزية لا يقرّها إلا التاريخ. وبصدق مؤلم، يمكن القول إن معظم هذه التنظيمات لا تختلف كثيرًا عن بعضها " نعال ذا أخو نعال ذا"؛ فلا فرق حقيقي بين من يرفع شعار الوطن ومن يتخذه غطاءً لمصالحه.
إن المراقب المنصف يرى أن معظم الكفاءات الفلسطينية، الفكرية والعلمية والمهنية، خارج هذه الأطر المغلقة، لأنها ضاقت بأفقها المحدود، وبخطابها الذي لم يعد يعبّر عن نبض الشارع الفلسطيني ولا عن حلمه المشروع بالتحرّر وبناء الدولة.
في زمن تُستهلك فيه الشعارات أسرع مما تُقال، تبدو القضية الفلسطينية أحوج ما تكون إلى من يُعيد وصلها بجذورها الأصيلة: بالشعب لا بالتنظيم، بالوعي لا بالبندقية العمياء، وبالإنسان الفلسطيني الذي يصنع الحياة رغم الحصار، لا بمن يحتكر اسمه في بيانات لا تُغني ولا تُسمن من جوع.
إن فلسطين، بما هي فكرة ومظلومية وتاريخ ممتد، تستحق قيادة بحجم تضحياتها ورؤية تليق بشعبها الذي أثبت في كل محنة أنه أكبر من كل الفصائل، وأصدق من كل الشعارات.
وهكذا يبقى الشعب الفلسطيني وحده يواجه الريح العاتية، يزرع الأمل في أرض أنهكها النزف، ويشيّد الكرامة على أنقاض الخذلان. تُطفأ الأنوار من حوله، وتظل في عينيه شعلة لا تنطفئ، تُذكّر العالم بأن من لا يملك إلا صوته وذاكرته لا يزال يقاوم.
يمشي الفلسطيني حافي القدمين على شوك الطريق، يحمل مفاتيح بيته المهدّم، وينادي وطنه من تحت الركام، بينما يختلف من يدّعون تمثيله على فتات سلطة لا تُطعم جائعاً ولا تحرّر أسيراً.
وحتى يأتي فجر لا يُباع فيه الحلم في سوق السياسة، سيظل هذا الشعب العظيم صاحب التضحيات أكبر من كل خذلان، وأصدق من كل منبر، وأجدر بالحياة من كل من تاجروا بدمه… فلسطين ستبقى وإن غابت عنها قيادتها.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.



أضف تعليق
قواعد المشاركة