غزة.. مرثيّةُ الذين يُشبهوننا ولا ينتمون إلينا!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيحين جلس الذئب إلى صغيره يُعلّمه الحذر، قال له:
"إيّاكَ ومن يُشبهك ولا ينتمي إليك، فخطرُه أعظمُ من كلّ ما تخشاه."
واليوم لو مرّ هذا الذئب على أطلال غزة، لوقف طويلاً، ثمّ همس: "ها هي الحكاية تتكرّر، لكنّ الضحية هذه المرة ليست ذئباً... بل وطناً جريحاً اسمه غزة."
غزة تلك التي تتوضّأ بالدم وتُصلّي على الإسفلت، لا تزال واقفة، رغم أنّ السماء أطبقت عليها ناراً، والأرض ضاقت بما حملت من قبورٍ ودموع.
مدينةٌ صغيرة المساحة، عظيمة الصبر، تُقاتل العالم كلَّه بصدورٍ عارية، وقلوبٍ لا تعرف الاستسلام.
في غزة يُولَد الأطفال على صوت الطائرات، ويتعلّمون الأبجدية من أسماء الشهداء.
هناك يكتب الناس رسائلهم إلى الغيم، علَّه يحملها إلى ضميرٍ عربيٍّ غفا طويلاً، لا يُوقظه نداء، ولا يُحرّكه صراخ.
كم مرّةً انتظر الغزّيون من إخوتهم أن يأتوا... فلم يأتوا!
وكم مرّةٍ أُحرقت البيوت، وسُفك الدم، والعين على الجنوب والشرق والغرب، تبحث عن ظلٍّ من عروبة، فلا تجد إلا وجوهاً تبتسم في الشاشات، وبياناتٍ تُساق كما تُساق الأكفان!
أمّةٌ عظيمةُ التاريخ، صغيرةُ الموقف.
تخشى أن تقول كلمة حقٍّ، وكأنّ الصدق صار تهمة.
تكتفي بالمناشدة والدعاء، ثمّ تُغلق الشاشات، وتعود إلى نومٍ ثقيلٍ يغطّيه خجلٌ لا يعترف بنفسه.
غزة اليوم ليست مدينة، بل مرآة.
من نظر إليها رأى وجهه الحقيقي: إمّا حُرّاً يقف رغم الألم، أو متخاذلاً يُبرّر صمته بالمستحيل.
هناك بين الركام، تمشي امرأةٌ بثوبٍ أسود، تحمل ابنها الشهيد وتهمس: "الحمد لله."
وهناك طفلٌ يرفع حجراً أكبر من كفّه، كأنّه يرفع قلب الأمّة كلَّها نحو السماء.
وهناك، الله — وحده الله — لا يزال يسمع، ولا ينسى.
غزة لا تبكي لأنّها اعتادت الجرح، بل لأنّها رأت خذلان الأقربين قبل عداوة البعيدين.
فكلّ ما عانته لم يكن من عدوٍّ يحمل سلاحاً فحسب، بل من إخوةٍ يُشبهونها ولا ينتمون إليها.
ورغم ذلك تبقى غزة... تُضيءُ من تحت الرماد، وتقول لنا بصوتٍ مبحوحٍ من الدخان: "لا تحزنوا عليّ، بل احزنوا على أنفسكم، لأنّكم فقدتم ما يجعل الإنسان إنساناً: الإحساس."
*محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة