غزة بين وصايتين: من كلوب باشا إلى توني بلير!
محمود كلّم
كاتب فلسطينييقال إنّ التاريخ لا يُعيد نفسه، لكنّه في غزة لا يفعل سوى ذلك. يعود في صورٍ جديدة، بأسماء مختلفة، لكنه يظلّ يحمل ذات الوجع: رجلٌ غريب يجلس على الكرسي، يتصرّف كأنّه الوصيّ على حياة الناس، والعرب من حوله إمّا صامتون أو موقّعون بالموافقة.
في الأمس كان كلوب باشا، القادم من بريطانيا ليتحكّم بقرار العرب وجيوشهم، واليوم يخرج من بين الركام اسم توني بلير ليُعلَن عنه كمندوبٍ سامٍ جديد لغزة، أو والٍ مُعيَّن بقرارٍ دولي ـ إقليمي. كأنّ غزة لا يكفيها ما حملته من دماء وحصار وأشلاء، حتى يأتيها والٍ غريب يقرّر عنها شكل المستقبل، ويعيد صياغة يومها كما لو أنّها أرضٌ بلا أصحاب.
غزة اليوم تُدار بالوكالة: تُدار كملفّ، لا كمدينة حيّة.
تُعرَض في المؤتمرات كبندٍ على جدول الأعمال، بينما أطفالها ينامون في الظلام، ونساؤها يخبزن على نار الحطب إن وُجد، ورجالها يبحثون في الأنقاض عن آخر ما تبقّى من حياة.
كلوب باشا كان استعماراً بوجهٍ صريح، أمّا بلير فهو استعمار بوجهٍ مبتسم، يرفع شعار الإعمار ويخفي وراءه شرط الخضوع. والوجع واحد: أن تُسلب إرادة الناس، وأن يُفرَض عليهم قيّم غريب، وأن يقف العرب متفرّجين؛ بعضهم يبارك، وبعضهم يتبرّأ بالصمت.
غزة اليوم ليست مجرّد مدينة، إنّها جرحٌ عربيّ مفتوح. كلّما نُكئ عاد ينزف من جديد. غزة وحدها تقف على الأطلال، تحرس كرامةً مهدَّدة، وتقاوم لتبقى حيّة. بينما يتناوب الغرباء على كراسي الولاية، كأنّها تركة يتقاسمونها.
ويبقى السؤال يتردّد كأنينٍ في الليل:
إلى متى تبقى غزة بلا قرارها؟
إلى متى يُكتَب لها الآخرون مصيرها، وتظلّ هي تدفع الثمن بالدم والجوع؟
ألم يحن الوقت أن تُرفَع وصايتها، وتُترك لتعيش بكرامة، بلا كلوبٍ جديد ولا بلير آخر؟
غزة لا تريد والياً. غزة لا تريد مندوباً سامياً. غزة تريد أن تكون نفسها فقط: أرضاً حرّة، وناساً أحراراً.
[محمود كلّم] كاتبٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة