غزّة: السَّماءُ تمطرُ دماً!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيالحزن ليس شعوراً عابراً، بل ذاكرة متجذرة في الوعي الجمعي للأمة! ما يؤلم اليوم أننا بتنا نرى الدين وقد تحوّل في بعض صوره إلى أداة تبرير بدل أن يكون أداة تحرر، وإلى غطاء للظلم بدل أن يكون صوت المظلوم.
حين جاء الشاه بكل أدوات الغرب ليُخضع الشيعة في إيران، اصطدم بجدار صلد من الرفض، وظل الدين يحفر في الأعماق حتى انفجر عليه في النهاية ونجحت الثورة الإسلامية في إيران!
ما يجب أن يُفهم أن المسألة ليست “الشيعة قاوموا والسنة لم يقاوموا”، بل القضيةُ كلها هي أنّ (الإسلام الشيعي) صُمّم منذ قرونه الأولى على أنه في مواجهة السلطة الغاصبة والجائرة، بينما (الإسلام السني) صُمّم على أنه حارسٌ للسلطة.
وهذا ما يجعل (الإسلام السني) اليوم متورطاً في تبرير كل سلطة قائمة حتى الفاسدة منها تحت لافتة “درء الفتنة” و "الطاعة وعدم الخروج على الحاكم"، بينما (الإسلام الشيعي) يملك في صلبه مفاهيم جاهزة للمواجهة:
الحاكم الجائر، التقية، الجهاد، عاشوراء، ولاية الفقيه، وكلها مفاهيم لا تعني شيئاً في العقل السني الرسمي، بل تُدان أحياناً باعتبارها تخريباً!
هنا يكمن الحزن الأكبر: أن يتحول الدين الذي نزل ليحرر الإنسان من عبودية السلطان إلى خادم في بلاط السلطان. أن تُفرّغ الروح من جوهرها، فلا يبقى للفقير المقهور إلا صبرٌ يفرض عليه، ولا يبقى للمظلوم إلا وصايا الطاعة العمياء.
الحزن أن يُستعمل حديث النبي عن "عدم الخروج" ذريعة لتثبيت الفساد، بينما كان جوهر رسالته أن يقول للظالم "كلا"! الحزن أن يتحوّل "درء الفتنة" إلى صك براءة لكل جائر، فيما الفتنة الحقيقية هي أن يسكت الناس على سحق الكرامة وسرقة الأوطان.
وليس هناك جرح أشد إيلاماً من جرح فلسطين؛ ذلك الوطن الممزق منذ عقود، حيث يتواصل النزيف بلا توقف، وحيث صار الاحتلال حقيقة يومية في حياة الناس، فيما صارت بيانات الشجب هي السقف الأعلى لأنظمة عربية غارقة في تبرير عجزها!
فلسطين اليوم هي المرآة التي تكشف عوراتنا جميعاً: أمة تتفرج على جرحها الأكبر وكأنه شأن بعيد عنها.
أما غزة، فهي صفحة دامية في كتاب هذا الحزن. غزة التي تُقصف ليل نهار، تتحول مستشفياتها إلى مقابر جماعية، يُقتل الأطباء بجوار مرضاهم، وتُقصف الحضانات على رؤوس الأطفال. في غزة لا ماء صالح للشرب، المياه المالحة الملوثة تختلط بمواد كيميائية مسرطنة تُسكب في الأنابيب لتسمم ما تبقى من حياة. في غزة لا دواء، ولا طعام، بل مجرد فتات يصل بشق الأنفس، بينما السماء تمطر دماً وصواريخ!
في غزة تُطفأ أنوار الكهرباء على غرف العمليات في لحظة حرجة، فيموت المريض لأنه فقير وتحت حصار. في غزة تُقطع الطرق على سيارات الإسعاف، وتتحول البيوت إلى مقابر، والشوارع إلى أنهار دم. هناك يُترك الناس عُزّلاً أمام جدار النار، يكتبون وصاياهم على هواتفهم قبل أن تنهار عليهم الجدران.
غزة اليوم ليست مجرد مدينة، بل شاهد على انهيار ضمير العالم! كل حجر فيها يصرخ، وكل جثة طفل فيها تسأل: لماذا تُركنا وحدنا؟ لماذا صار موتنا خبراً عابراً في نشرات الأخبار؟
لقد صنع التاريخ مسارين مختلفين: مسار يورث المواجهة حتى لو كانت خاسرة، ومسار يورث الطاعة حتى لو كانت مُهينة. وما بينهما ظلّت أجيالٌ كاملة حائرة بين دينٍ يُطالبها أن تكون عيوناً للسلطة، ودينٍ آخر يهمس لها أن لا سلطان فوق الحق.
ولعل السؤال الذي يبقى معلقاً في أعناقنا جميعاً: إلى متى سيبقى الدين في هذه الأمة سجالاً بين من يرفع راية المقاومة ومن يرفع راية الطاعة؟ وإلى متى سيظل المظلوم يفتش عن معنى العدالة في الكتب ولا يجدها في الواقع؟ وإلى متى ستظل غزة تستغيث فلا يجيبها أحد، وتظل فلسطين تنزف دون أن تتحرك الجموع؟
ذلك هو الحزن، وذلك هو الجرح المفتوح الذي لم يندمل بعد!
غزّة: السَّماءُ تمطرُ دماً… والعرب والمسلمون نيام كنومة أهل الكهف!
[محمود كلّم] كاتبٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنَين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة