ذاكرة الدم… من صبرا وشاتيلا إلى غزة!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي أيلول/سبتمبر 1982، كانت بيروت تختنق تحت حصارٍ خانق، وكانت المخيمات الفلسطينية في صبرا وشاتيلا مجرّد جزرٍ من الضعف في بحرٍ من البنادق.
حينها وقف فيليب حبيب، المبعوث الأميركي، يفاوض ياسر عرفات على تسليم السلاح. طلب عرفات ضماناتٍ لأهله، فجاءه الجواب بأثقل الكلمات: أميركا تضمنك.
لكن الضمانات الأميركية لم تكن سوى ورقةٍ ملوّثة بالدم. فحين خرج المقاتلون الفلسطينيون من بيروت، تُرك المخيم عارياً، بلا حمايةٍ.
وفي ليلٍ طويلٍ خانق، دخلت القوات اللبنانية والكتائب وقوات سعد حداد، تحت صليبٍ مرفوع في الواجهة، لتُزهق الأرواح وتُذبح النساء والأطفال والشيوخ.
مساء يوم الخميس 16 أيلول/سبتمبر 1982، حوالي الساعة الخامسة والنصف مساءً، بدأ القتلة بدخول حي عرسان ونادي الكرمل الرياضي جنوب مخيم شاتيلا، كما اقتحموا الحي الغربي للمخيم.
وكانت بعض الكنائس صامتة، بل مُرَحِّبة، ولم ترَ الكنيسة المارونية في لبنان في المذبحة ما يستحق حتى إدانة رسمية.
وقبل ظهر يوم السبت 18 أيلول/سبتمبر 1982 غادر القتلة المنطقة بعدما شعروا بأن رائحة الجريمة قد فاحت كثيراً.
هكذا تحوّل الوعد الأميركي إلى خيانةٍ مكتوبة بدماء الآلاف، وهكذا صارت بيروت صيف 1982 شاهدةً على أبشع المذابح.
واليوم… بعد أكثر من أربعة عقود، نرى غزة تعيش صبرا وشاتيلا متكرّرة.
الوجوه ذاتها وإن تغيّرت الأسماء: ضمانات دولية جوفاء، بيانات إدانة بلا فعل، صمتٌ رسمي وديني، وتواطؤ يختبئ خلف شعاراتٍ برّاقة.
والنتيجة واحدة: أطفال يُنتشلون من تحت الركام، نساء يصرخن في العتمة، وشعبٌ يواجه الإبادة وحيداً.
الدم الفلسطيني، من بيروت إلى غزة، كان دائماً الأرخص عند العالم.
في صبرا وشاتيلا ذُبحوا بالسكاكين والفؤوس، وفي غزّة يُبادون بصواريخ الطائرات.
لكن المشهد هو ذاته: قتلةٌ يتباهون، وعالمٌ يلوذ بالصمت، ووعودٌ دولية لا تحمي سوى القاتل.
الفرق الوحيد أنّ جرح صبرا وشاتيلا بقي في ذاكرة التاريخ، أمّا جرح غزة فهو مفتوح الآن، أمام أعيننا، ينـزف كل يوم، كأنه يذكّرنا أنّ المجازر ليست حدثاً من الماضي، بل واقعاً يتكرّر حين يُترك الفلسطيني بلا سند، وحين يُمنح القاتل كلَّ الحصانة.
إنها مأساةٌ لم تُكتب في الكتب فقط، بل تُعاد كتابتها في شوارع غزة، بجثامينَ صغيرة تحمل أسماء لم تكبر بعد، وبأحلامٍ لاجئة لم تجد بيتاً يحميها من الطائرات.
وكأنّ التاريخ يصرّ أن يقول لنا: صبرا وشاتيلا لم تنتهِ… بل عادت في غزة.
وهكذا، بين صبرا وشاتيلا بالأمس وغزة اليوم، يتكشّف الجرح ذاته:
دمٌ فلسطيني مسفوح على أرصفة العجز، وصمتٌ عربي وإسلامي يثقل السماء، وعالمٌ يدّعي الحضارة بينما يشيح بوجهه عن المذبحة.
كأنّ الفلسطيني محكومٌ أن يقاتل وحده، أن يدفن شهداءه بيديه، وأن يحمل وحده أمانة القضية.
ما أقسى أن تكون المأساة واحدة منذ عقود، وما أمرّ أن يكون الخذلان هو الثابت الوحيد: خذلان العرب، خذلان المسلمين، وخذلان الإنسانية جمعاء.
[محمود كلّم] كاتبٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.


أضف تعليق
قواعد المشاركة