غزة.. حين انقلب التاريخ من مهبط الرسالات إلى مهبط الطائرات!
محمود كلّم
كاتب فلسطيني
في الأزمنة البعيدة، كان الشرق الاوسط قلب العالم، ونافذة السماء إلى البشر، ومسرح الوحي الذي غيَّر وجه التاريخ. على هذه الأرض مشت أقدام الأنبياء، ومنها صعدت الدعوات، ومنها أشرقت الكلمات الأولى التي بشّرت بالعدل والرحمة والسلام. لم يكن الشرق الأوسط مجرّد جغرافيا، بل كان مرآةً للروح الإنسانية ومهداً للنور.
لكن أي يدٍ طمست النور بالظلام؟ كيف تحوّل مهبط الوحي إلى مهبطٍ للطائرات الحربية الأميركية والصهيونية؟ طائرات لا تحمل بشارة ولا سلاماً، بل تقذف حمماً من نار وحديد، تمطر موتاً لا حياة.
اليوم، حين ترفع عينيك إلى سماء غزة، لن ترى أسراب الطيور، ولا غيوم الرحمة، بل سترى أزيزاً معدنيّاً يفتح أبواب الجحيم. كأن التاريخ انقلب رأساً على عقب: الأرض التي حملت رسالة "سلام على من اتبع الهدى" غدت جرحاً مفتوحاً تحت قصف لا يعرف الرحمة.
في غزة، الأطفال لا يحفظون أسماء الأنبياء بقدر ما يحفظون أسماء الطائرات: "إف-16"، "إف-35"، "الدرون". صارت هذه مفردات طفولتهم، بدلاً من قصص يوسف وموسى وعيسى ومحمد. أي قسوة أن تختزن ذاكرة البراءة أصوات الانفجارات بدلاً من أناشيد الأمهات؟
كان يُفترض أن تكون هذه المنطقة جسراً يربط الأرض بالسماء، فإذا بها تتحول إلى مسرح تُختبر فيه أحدث آلات القتل. هنا يسقط القناع عن العالم: شعارات الحرية والعدالة تنهار عند أول صاروخ يبتلع بيتاً آمناً.
ويبقى السؤال المرير: كيف صار الوحي يوماً يحمل للناس خبراً من الله، بينما تحمل السماء نفسها اليوم خبراً من البنتاغون؟ كيف تحوّل المهبط من رسالة تُضيء الدروب إلى قنابل تُطفئ الأرواح؟
في غزة تنكشف الحقيقة: الشرق الأوسط لم يعد مهوى القلوب لأنه منبع الأنبياء، بل لأنه حقل تجارب للسلاح، وبئر نفطٍ لا ينضب، و"موقع استراتيجي" على خرائط الجيوش. أما أهله، أصحاب الأرض والذاكرة، فقد حوّلهم العالم إلى أرقام في نشرات الأخبار، وصورٍ عابرة على شاشات لا تبكي معهم ولا لأجلهم.
ومع ذلك، يظل في هذه الأرض ما يذكّر بتاريخها المقدّس: صمود رجال ونساء يحملون أرواحهم على أكفّهم، يواجهون الطائرات بالحجارة، ويؤمنون أن السماء – التي كانت يوماً مهبط رحمة – ستعود لتكون لهم نصيراً، مهما طال ليل القصف.
[محمود كلّم] كاتبٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنَين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة