غزة… جنازة الكرامة العربية والإسلامية!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيغزة مرآة أمةٍ امتلأت مساجدها ومآذنها، لكنها فرّغت قلوبها من النخوة، واكتفت بالحياد البارد والدعاء الكسول، وتركت دماء أطفال غزة شاهداً على خيانة جماعية لا تُمحى.
غزة لم تكن مجرد حرب؛ كانت مرآةً. مرآة صافية إلى حد الوقاحة، انعكست عليها وجوه العرب والمسلمين بلا مساحيق تجميل، فظهروا عراة، باردين، يتقنون فن الهروب أكثر من فن النصرة.
من قال إن الردّة تحتاج إعلاناً؟ لم نسمع أحداً يصرّح: "كفرت بالقضية"، لكننا رأينا الملايين يختبئون خلف شعارات "الحياد"، ويستمتعون باستسلام "لا حول ولا قوة إلا بالله" و"حسبي الله ونعم الوكيل"، كأنها رخصة للنوم لا دعوة للفعل.
العرب الذين كانوا يوماً يتفاخرون بـ"النجدة"، صاروا اليوم خبراء في فنون الاعتذار:
اعتذار للدول الكبرى عن أي انفعال زائد.
اعتذار لوسائل الإعلام عن أي كلمة "جارحة".
اعتذار حتى للجلاد كي لا يزعل.
والمسلمون الذين كان يُفترض أن يذوبوا وجعاً لأجل مظلوم، ذابوا بدلاً من ذلك في جداول المباريات، ومواسم "الترفيه"، وحفلات "اللامبالاة". غزة تحت القصف، والعرب والمسلمون تحت "الستوري"، يصفّون صور العشاء لينشروها على "إنستغرام" بكل فخر.
أي إخوة هذه التي تحتاج تأشيرة وتصريحاً وختماً أمنياً قبل أن تتحرك؟ أي غيرة هذه التي تنطفئ عند حدود المعبر؟
إنها ليست هزيمة عسكرية، بل سقوط أخلاقي جماعي. سقوط صامت. كأن العرب والمسلمين صاروا متواطئين بالصمت، يغطون عجزهم بأحاديث مطوَّلة عن "الحكمة" و"التوازن". يا لها من أسماء رقيقة للجبن!
غزة لم تفضح الاحتلال بقدر ما فضحت العرب والمسلمين. فالاحتلال عدو معلوم، لم يغيّر أقنعتَه. أما العرب والمسلمون فصاروا أعداء أنفسهم: يكذبون على دم الشهداء ببيانات مكررة، يدفنون صرخات الأطفال تحت ركام نشرات الأخبار، ويستوردون من الغرب مفردات جديدة لتجميل الخيبة: "حل الدولتين"، "المسار السلمي"، "التطبيع كخيار استراتيجي".
كأن العرب والمسلمين يقولون لغزة: اصمدي وحدك، فلدينا أولويات أهم… مباريات الدوري، وأسعار النفط، وأعياد الميلاد الرسمية.
يا له من زمن بائس. زمن صار فيه الجلاد أكثر صدقاً من الضحية الصامتة. زمن يكفي فيه أن يكتب العربي أو المسلم منشوراً متعاطفاً ليشعر أنه "مقاوم".
غزة لا تحتاج دموع العرب والمسلمين، بل تحتقرها. غزة لا تنتظر قصائدهم، فقد شبعت منها. غزة فقط كشفتهم، مزقت آخر أوراق التوت، وتركتهم أمام أنفسهم: أمة كبيرة، غنية، مليئة بالمساجد والمآذن… لكنها مفلسة من النخوة والشرف والشهامة والكرامة.
[محمود كلّم] كاتبٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنَين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة