غزّة... تنزفُ في عرض البحر!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيعلى ظهر سفينةٍ تتقاذفها الأمواجُ في عرض البحر، يروي المناضل الاردني غالب هلسا لحظةً لم يكن فيها الغدرُ من العدو، بل من الأخ. مقاتلون أنهكتهم المعارك، خرجوا من بيروت بعد حصارٍ ثلاثيّ الأنياب: قنابل العدو، وخيانة الأشقاء، وصمت العالم. وحين اشتدّت حاجتهم إلى قطرة ماء، كان البحرُ المحيط بهم أقلَّ ملوحةً من قلوب أولئك الذين أغلقوا الموانئ، وصمّوا آذانهم، ودفنوا نخوتهم تحت رمال النفط.
تلك اللحظة البعيدة التي سردها هلسا قبل عقود، ليست بعيدةً عنّا اليوم، ولم تنتهِ بانتهاء الحصار. لقد امتدّت، وتضخّمت، وتشظّت، حتى غطّت غزة كلّها؛ المدينة التي صارت سفينةً بلا ميناء، تقاوم الغرق في كل لحظة، ويتناوب على طعنها الجوعُ، والخذلان، والخيانة والقصف.
غزة اليوم تعيش تحت حصارٍ لا يُقاس، لا بالميناء ولا بالمطار. لا الماءُ يصلها، ولا الدواء، ولا حتى شريان الإنسانية. وبينما يموت أطفالها عطشى تحت الأنقاض، لا تزال موانئ بعض "الأشقاء" مفتوحةً أمام السفن العابرة، لكنها مغلقةٌ أمام جراح غزة. المساعدات لا تأتي إلا حين تسمحُ بها حسابات السياسة، والشفقة تأتي متأخرةً – إن جاءت.
غزة، مثل تلك السفينة، تلفظ أنفاسها وسط صمت القريب قبل البعيد. وللمفارقة التي لا تقلُّ وجعاً عن زورق العدو على شواطئ جدة، أن العالم كلّه يعلم، ولكن قليلين فقط يتحركون. الأساطيل التي تطوف البحار باسم "حقوق الإنسان" تمرُّ بجوار المجازر ولا تتوقّف. حتى الحليب صار مشروعاً مقاوماً، والماء تهمة، والأنقاض مسكناً دائماً.
لو بُعث غالب هلسا اليوم، ورأى غزة، لأدرك أن ما حدث قرب ميناء جدة لم يكن حالةً شاذّة، بل كان بدايةً لمسلسل طويل من الطعن في الظهر؛ مسلسل تُكتب حلقاته بالدم، وتُبثّ على شاشاتٍ تبكي قليلاً، ثم تنسى.
غزة اليوم ليست بحاجةٍ فقط إلى الطعام والماء، بل إلى ضميرٍ حيّ، إلى صرخة تُسمع خارج الصالات الزجاجية التي تُصاغ فيها بيانات التضامن. غزة لا تطلب معجزة، بل أن تُعامل، على الأقل، كما عومل زورق العدو، لا أكثر.
أيُّ زمنٍ هذا، يُمنح فيه العدوُ الخبز والوقود، بينما يُترك الأخُ يموت على قارعة الطريق؟
وغزة، تلك المدينة التي لم تَعُد تُقصفُ بالقنابل وحدها، بل بالصمت.
غزة التي لم تَعُد تنتظر النصر، بل تنتظر أن يراها أحد.
لم تَعُد تراهنُ على قلوب العالم، بل على ما تبقّى من أنفاس تحت الركام.
في غزة، الأطفال يولدون وفي عيونهم الخوف، وتكبر الأمهات وفي صدورهن مراثٍ لم تُكتب بعد.
في غزة، الموت ليس نهاية، بل بدايةٌ لحياةٍ أخرى من النسيان.
في غزة، لا يأتون بالماء، ولا يُرسِلون الدواء، ولا يسمحون حتى بأن ندفن شهداءنا بكرامة.
فأيُّ عارٍ أكبر من أن تغرق غزة، وأهلها يمدّون أيديهم إلى إخوةٍ أغلقوا أبوابهم وقلوبهم معاً؟
أيُّ موتٍ أشدُّ من أن تعيش على قيد الحياة، فقط لتُذكِّر العالم بخيانته لك؟
غزة لا تموت، لكنها أيضاً لا تعيش. إنها تتأرجح بين نارين: نار الحصار، ونار الخذلان.
وغداً، حين يُكتَب التاريخ، لن يُسجَّل فقط أسماء القتلة، بل أسماء الذين خانوا، وصمتوا، وخذلوا أيضاً.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة