غزّة تكتُبُ قصيدة الشّاعر نزار قبّاني الأَخيرة!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيمن تحت التراب، من العدم، من حيث لا يسمع أحدٌ صرخاتِ المقهورين، يعود نزار قباني، لا بقصيدةٍ جديدة، بل بندبةٍ قديمةٍ تنزف اليوم في غزة. لا يكتب هذه المرة بالحبر، بل بدماء الأطفال، وأشلاء الأمهات، ودموع الآباء العاجزين أمام القصف والحصار.
نزار قباني الذي صاح ذات يومٍ في وجه العرب قائلاً:
"لا تُقلقوا موتي بآلاف الخُطب، فقد أمضيتُ عمري أستثير سيوفكم، واخجلتاه... سيوفُكم صارت من خشب!"، كأنه كان يكتب عن غزة اليوم، عن رفح وخان يونس، عن جباليا والنصيرات، عن كل زقاقٍ تحوّل إلى شاهد قبر.
"الموت خلف بابكم... الموت في أحضانكم... وأنتم تتفرجون"، هكذا قال منذ زمن، لكنها الآن تصرخ في وجوهنا، ونحن نتابع صور الجثث تحت الأنقاض، نُحصي الضحايا، وننتظر بيانات الإدانة... بينما الأطفال يخرجون من الحياة قبل أن يعرفوا معناها.
في غزة، لا وقت للخُطب. لا حاجة لبيانات. لا جدوى من اجتماعات القمم الفارغة. فالغزيون يعيشون الموت لحظةً بلحظة، ويقاومون بما تبقّى من كرامة. أما سيوف العرب، فخشب، وأما ضمائرهم، فمشغولة بما هو أدنى من الدم.
"ما زلت أسمع أن مونيكا تدافع عن فضائحها، وتغسل عارها بدمائكم... ودماء أطفال العراق..."، واليوم تُغسله بدماء أطفال غزة. الغرب صامت، والشرق متآمر، والعرب يُشهِرون إعلامهم... لا لفضح المجازر، بل لستر خيبتهم.
غزة ليست خبراً عابراً، ولا مجرّد رقمٍ على الشريط الإخباري. غزة هي قميص يوسف المُلطّخ بدم الكذب، وهي الابن الذي ألقاه إخوته في البئر، ثم عادوا بقلوبٍ ميتة. غزة التي صارت تعيش وحدها، تُقاتل وحدها، وتُدفن شهداءها بيد واحدة.
"ماذا أقول إذا سُئلت هناك عن نسبي؟ سأقول للتاريخ: أمي لم تكن من نسلكم... وأعلن موت العرب!"، هكذا كتب نزار قباني. واليوم، لو سُئل أطفال غزة عمّن خذلهم، لقالوا: الجميع.
فالبيانات لم توقف قذيفة، والتضامن الموسمي لم يمنع جرافة، ولا أعاد طفلاً إلى أمه.
في كل بيتٍ في غزة، يعيش نزار، يبكي، يكتب، يموت مرةً بعد مرة. وفي كلّ عينِ طفلٍ تنمو قصيدةٌ حزينة، لن تُذاع، لكنها ستُحفر في الذاكرة، وتُكتب على جدران البيوت المدمّرة: هنا كانت حياة، هنا كانت طفولة، هنا خذلنا العالم، وخذلنا "الأشقاء".
غزة، رغم كل شيء، ترفض أن تموت. ففيها من الشعر ما يهزّ العروش، ومن الدم ما يكتب التاريخ، ومن الكرامة ما لا تفهمه الخُطب.
وإن كان الشاعر نزار قباني قد أعلن موت العرب منذ عقود، فإن غزة اليوم توثّق هذا الموت كلّ يوم، بجرحٍ لا يندمل، وبصمتٍ عربيٍّ يُدوّي أكثر من القنابل، وبخذلانٍ لا يغفره التاريخ، لكنها رغم كل شيء، لا تموت.
غزّة لا تبحث عن رثاء، بل عن ضمير. لا تنتظر القصائد، بل الأفعال. ستبقى حيّةً ما دامت تقاتل، وستظلّ قصيدة نزار نبضاً في قلب كلّ حرٍّ يرفض الخيانة، ويقاوم الخنوع، ويصرخ في وجه الجبن العربي.
فلا تُثقلوا موت نزار... فقد تعب من الحزن، وتعبت غزّة من الصمت.
وإن لم يكتب نزار هذه الكلمات، فقد كتبتها غزّة على لسانه، بدمها، وبصوتٍ يشبه صوته... لأن الحروف تموت أحياناً إن لم تصرخ، كما كان يصرخ.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال

أضف تعليق
قواعد المشاركة