بدر فلسطين التي غابت دون وداعٍ!

منذ 4 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

في عالمٍ يزدادُ فيه الرّحيلُ والألمُ، تغادرنا الحاجة بدر محمد خليل عبدالرحيم (أم مرعي) حاملةً معها عبء الذكريات وأحلام العودة التي لم تتحقق. قصتها ليست مجرد حياة عادية، بل حكاية شعب جُرّد من وطنه، وبقي الحنين يرافقه في غربته حتى الرمق الأخير.

 

في صباح هادئ من نيسان، انطفأت روح الحاجة بدر في بلدة بحنين شمال لبنان، بعد عمر طويل حمل من الوجع ما لا يُحتمل.

رحلت في 11 نيسان 2025، لكنها لم ترحل وحدها... فقد رحل معها حلم العودة وأمل ظل يسكن قلبها منذ أن اقتلعتها النكبة من بلدتها سعسع التي وُلدت فيها عام 1933، وما غادرتها يوماً في وجدانها.

 

كانت تسكن في مخيم لكنها تعيش في سعسع، تمشي في دروب اللجوء، لكن خطاها ظلّت معلّقة بتلك الأرض، بزيتونها، وزعرورها، وبركتها، وبكرومها التي كانت مهر زواجها، وبأوراق الطابو التي احترقت في مخيم نهر البارد، كما احترقت معها بقايا الذاكرة. لم يكن الحنين مجرد حكاية، بل وجع يومي، كأنها تمشي في المنفى على رماد وطن.

 

في عام النكبة 1948، حملت معها فقط تراب الأرض العالق في قلبها، وسار بها التهجير من قرية إلى أخرى، ومن مخيم إلى آخر. لم تترك الأرض بإرادتها، ولم تخن الوطن، بل خذلها الزمن والعالم. عاشت النزوح وانتقلت من الجنوب إلى البقاع، ومن بعلبك إلى نهر البارد، حيث احترق بيتها الأخير في معركة مخيم نهر البارد، كما احترقت أولى حكاياتها.

 

في عام 1952، تزوجت في مخيم نهر البارد، ثم عاشت فترة من الزمن في الأشرفية مع زوجها أحمد مرعي ناصر الذي كان يعمل في سينما ريفولي بساحة البرج.

 

رغم قسوة الزمن، كانت امرأة الصلابة، والصبر، والكرامة. لم تُهزم، وإن حاصرها الغياب. ربّت أولادها على الصبر والتمسك بفلسطين، وكان حديثها اليومي: "سعسع لا تزال هناك، تنتظرنا". كانت تتلو أسماء الجبال لأولادها كأنها دعاء، وتحكي عن مغارة الشيخ وهيب، وجبل عداثر، وجبل الضو، كما تروي الأم لطفلها الحكاية الأخيرة قبل النوم.

 

لم يكن الحنين وحده ما خلّفته وراءها، بل تركت إرثاً إنسانياً ناصعاً تجسّد في ابنها، المحامي والمستشار القانوني الأستاذ مرعي ناصر، أحد أعلام الحقوقيين الفلسطينيين في لبنان. مثّل قضيته بصدق، فكان مستشاراً قانونياً لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، ثم مستشاراً للأونروا لشؤون اللاجئين الفلسطينيين القادمين من سوريا إلى لبنان. كان ثمرة رعايتها، وصوتها في الميادين، وامتدادها الذي لم ينكسر.

 

ماتت الحاجة بدر كما يموت الشجر إذا اقتلع من تربته، لكنها حملت في قلبها جذوراً لا تجف وظلالاً لا تختفي. رحلت وفي عينيها صورة الوطن، وفي روحها ومضةٌ خضراءُ، تشبهُ سعسع حين كانت خضراء.

 

رحلتِ يا(أم مرعي)، وتركتِ خلفكِ فراغاً لا يملؤه إلا الصبر، والحنين أنينٌ طويلٌ يتردد في زوايا البيت وذاكرة من عرفوك.

 

ارقُدي قَريرةَ العَينِ... وإن لم يُكتب لكِ أن تعودي إلى سعسع،

فأنتِ لم تغادريها يوماً.

سكنتِها، وسكنتكِ، وستظلين فيها ما بقي الزيتون وما بقي الوطن في قلوبنا.

 

سلام عليكِ،

حين وُلدتِ في تراب فلسطين،

وحين شرّدتكِ النكبة،

وحين متِّ والحنين في عينيكِ.

 

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

 

 

مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

من نيبال إِلى غزّة: حين يُغلِقُ الحاكمُ أُذُنيهِ عن صرخاتِ شعبهِ!

القمع لا يقتل الأفكار، بل يورثها مزيداً من الاشتعال. وكل كلمة مكتومة تتحول جمراً تحت الرماد، تنتظر ريحاً صغيرة لتتحول ناراً تعصف ب… تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير