من فِيتنام إلى غزّة: أَمريكا في مَسَارِ الهزائمِ والخيباتِ

منذ 5 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

في عالمنا المعاصر، لا تزالُ الولايات المتحدة الأمريكية تمثلُ القوة العظمى التي يتحركُ العالمُ وفقاً لمصالحِها الاستراتيجيةِ والاقتصاديةِ. لكنَّ هذه القوة، التي طالما سيطرت على المشهدِ الدوليِّ، تواجهُ تحدياتٍ كبيرةً تكشفُ هشاشتها في العديدِ من الساحاتِ. من فيتنام إلى غزة، أثبتتِ التجاربُ العسكريةُ والسياسيةُ أنَّ الهيمنة الأمريكية ليست بمقدارِ ما تظهرهُ من قوةٍ، بل هي مجموعةٌ من الخيباتِ والهزائمِ التي لا يتمُّ الحديثُ عنها كثيراً. وفي قلبِ هذا الصراعِ، تبرزُ غزة كمركزٍ للتحولاتِ الجيوسياسيةِ والاقتصاديةِ، حيث لا يتعلقُ الصراعُ بمقاومةِ الاحتلالِ فحسبُ، بل بما هو أبعدُ من ذلك، من ثرواتٍ واستهلاكٍ للمواردِ وتصفيةٍ للأطماعِ الكبرى.

 

هذه المقالةُ ستسلطُ الضوء على رحلةِ أمريكا من الهزائمِ إلى التورطِ في الصراعاتِ المستمرةِ، متخذةً من غزة مثالاً حيّاً للصراعِ الذي يخوضهُ الفلسطينيون مع القوى الكبرى، وهو صراعٌ يتجاوزُ الحدود العسكرية إلى حربٍ من أجلِ البقاءِ والكرامةِ.

 

لطالما ظهرتِ الولايات المتحدة الأمريكية بمظهرِ القوّةِ العظمى التي لا تُقهَر، تتحرّكُ بثقةٍ في أرجاءِ العالم، وتنشرُ قواعدَها العسكريّة في كلِّ قارّةٍ. غير أن نظرةً فاحصةً إلى تاريخِها العسكريِّ والسياسيِّ تكشفُ هشاشة هذه الهيمنةِ، وتفضحُ حقيقة "النمرِ من ورقٍ".

 

خسرتِ الولايات المتحدة الأميركية أكثر من 175 ألف قتيلٍ في فيتنام، قبل أن تَهرُبَ تحت جُنحِ الظلامِ دون تحقيقِ أهدافِها. ولم يكنِ الأمرُ مختلفاً في لبنان، حين أدّى تفجيرُ ثكنةِ المارينز في بيروت عام 1983 إلى مقتلِ وإصابة نحوِ 400 جنديٍّ أمريكيٍّ، لتُسارعَ واشنطن إلى الانسحابِ.

أمّا في العراقِ وأفغانستان، فقد دخلت أمريكا بجيوشِها، وخرجت مُنهَكَةً، بعد سنواتٍ من المقاومةِ والخسائرِ، دون تحقيقِ انتصارٍ يُذكَر.

 

ورغم امتلاكِ الولاياتِ المتحدةِ نحو ألفِ قاعدةٍ عسكريّةٍ منتشرةٍ حول العالم، فإنّ وجودَها العسكريَّ الداخليَّ لا يتجاوزُ 30 ألف جنديٍّ. وهو ما يعكسُ اعتمادها المتزايد على "حمايةِ المحيطاتِ" لا على قوّةِ الردعِ الذاتيّةِ. وكأنّها، على اتّساعِها، دولةٌ تختبئُ خلف "بحرِ الظلماتِ" خشية المواجهةِ.

 

لكن ما هو أخطرُ من كلِّ ذلك، هو التحوّلُ الجذريُّ في بُنيةِ الدولةِ الأمريكيةِ نفسها. إذ لم تَعُد تُدارُ كدولةٍ تقليديّةٍ، بل ككيانٍ اقتصاديٍّ ضخمٍ تُهيمِنُ عليه الشركاتُ الكبرى والمصالحُ الرأسماليّةُ. ولعلَّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبّر عن هذا الواقعِ بوضوحٍ، حين اختزل السياسة الأمريكية بكلمةٍ واحدةٍ: "المالُ".

 

هذا الفهمُ "الماليُّ" للسياسةِ يُفسّر جزئيّاً التحالف العميق بين واشنطن وكيانِ الاحتلالِ في فلسطين.

تحالفٌ لا يقومُ فقط على أساسٍ استراتيجيٍّ أو أيديولوجيٍّ، بل على مصلحةٍ اقتصاديّةٍ صِرفةٍ تتجلّى اليوم بوضوحٍ في المشهدِ الغزّيِّ.

 

ففي مقابلِ شواطئِ غزّة، تُشيرُ تقاريرُ اقتصاديّةٌ إلى وجودِ مخزونٍ ضخمٍ من الغازِ الطبيعيِّ، قُدِّرت قيمتُهُ بأكثر من 54 مليار دولار سنويّاً، وقد بدأَ الاحتلالُ بطرحِهِ فعلاً لخمسِ شركاتٍ عالميّةٍ. هذا الموردُ لا يُعدُّ فقط مصدراً ضخماً للثروةِ، بل ورقةً جيوسياسيّةً في غايةِ الأهميّةِ، خصوصاً في ظلِّ سعيِ الغربِ إلى تقليلِ الاعتمادِ على الغازِ الروسيِّ.

 

ومن هنا، يمكنُ قراءةُ الحملةِ التدميريّةِ على غزّة من منظورٍ مختلفٍ: ليس فقط بهدفِ القضاءِ على المقاومةِ، بل لتفريغِ الأرضِ من سكانِها، تمهيداً لاستخراجِ الغازِ دون معارضةٍ محليّةٍ. إنّ وجود مقاومةٍ مسلّحةٍ في غزّة، وعلى رأسِها كتائبُ القسّامِ، يُعدُّ عائقاً حقيقيّاً أمام تمريرِ هذا المشروعِ الطموحِ، الأمرُ الذي يُفسّر حجم العنفِ المُمارس والسكوتِ الدوليِّ المُشينِ.

 

دونالد ترامب، الذي أبدى اهتماماً صريحاً بأن يكون "شريكاً في الغازِ"، لم يكن يُطلِقُ وعوداً فارغةً، بل كان يُعبّرُ عن طموحٍ أمريكيٍّ استثماريٍّ في شرقِ المتوسّطِ، يجعلُ من غزّة محوراً لصراعٍ جيو-اقتصاديٍّ تتقاطعُ فيه مصالحُ الاحتلالِ مع أطماعِ الشركاتِ الأمريكيةِ.

 

في النهايةِ، تبقى الحقيقةُ الكبرى أنّ الفلسطينيَّ، رغم كلِّ الألمِ، ما زال الرقم الصعب في هذه المعادلةِ. وأنّ المقاومة، مهما قُمِعَت، تظلُّ الصوت الذي يُعكّرُ صفو هذا المخطّطِ الاستعماريِّ، الذي يُحاولُ أن يُحيل البشر إلى عقباتٍ، والمقدّساتِ إلى مشاريع تجاريّةٍ.

 

في عالمٍ أصبح فيه المال هو المعيار، والشركات هي القوى الحقيقية التي تحرك السياسة العالمية، يحاول الظالمون أن يحولوا الشعوب إلى مجرد أرقام تُحسب في ميزان الربح والخسارة. لكن ما يظنونه ضعفاً، هو في الواقع قوةٌ متجددةٌ ينبعث منها شعاعٌ لا يمكن تحطيمه.

 

غزّة اليوم، وهي تحت نير الحصار والدمار، تُثبت للعالم أن الشعوب التي تتحد في مقاومتها لا تعرف الاستسلام. والولايات المتحدة، مهما كانت قواها العسكرية واقتصادها الجبّار، لن تتمكن من سحق إرادة أمةٍ لا تخشى الموت، وتعتبر من المستحيل أن تُستعبد أو تُباع. فالمقاومة الفلسطينية هي صوتٌ يتردد في كل مكان، يفضح أطماع القوى الكبرى ويقف في وجه مشاريعهم الاستعمارية.

 

أمريكا قد تراهن على المال، ولكن الشعوب الحرة تراهن على العزة والكرامة، وكلما ظنوا أنهم قد قضوا على حلمنا، وجدوا أنفسهم أمام حلمٍ أكبر وأقوى، حلم الحرية الذي لا يموت.

..........................

 

بعض المصادر :

 

1. "The Vietnam War: An Intimate History"

 

المؤلف: Geoffrey C. Ward وKen Burns

 

الدولة: الولايات المتحدة الأمريكية

 

تاريخ ومكان النشر: 2017، New York, USA: Alfred A. Knopf.

 

2. "The Lebanon War"

 

المؤلف: Itamar Rabinovich

 

الدولة: الولايات المتحدة الأمريكية

 

تاريخ ومكان النشر: 1985، Oxford University Press.

 

3. "America's War for the Greater Middle East"

 

المؤلف: Andrew J. Bacevich

 

الدولة: الولايات المتحدة الأمريكية

 

تاريخ ومكان النشر: 2016، New York, USA: Random House.

 

4. "The Gaza Strip: The Political Economy of De-Development"

 

المؤلف: Sara Roy

 

الدولة: الولايات المتحدة الأمريكية

 

تاريخ ومكان النشر: 2001، Washington, USA: Institute for Palestine Studies.

 

5. "The Globalization of World Politics"

 

المؤلفون: John Baylis, Steve Smith, Patricia Owens (Editors)

 

الدولة: المملكة المتحدة

 

تاريخ ومكان النشر: 2017، Oxford, UK: Oxford University Press.

 

6. "The Middle East: A Brief History of the Last 2,000 Years"

 

المؤلف: Bernard Lewis

 

الدولة: المملكة المتحدة

 

تاريخ ومكان النشر: 1995، London, UK: Weidenfeld & Nicolson.

 

7. "The Israeli-Palestinian Conflict: A People's War"

 

المؤلف: David McDowall

 

الدولة: المملكة المتحدة

 

تاريخ ومكان النشر: 1991، London, UK: I.B. Tauris.

 

8. "The New Middle East: The World After the Arab Spring"

 

المؤلف: Paul Danahar

 

الدولة: المملكة المتحدة

 

تاريخ ومكان النشر: 2013، London, UK: Bloomsbury Publishing.

 

9. تقارير ومقالات اقتصادية من مواقع مثل:

 

BBC News

 

المؤلف: فريق BBC

 

الدولة: المملكة المتحدة

 

تاريخ ومكان النشر: موقع بي بي سي الإلكتروني (تاريخ النشر يختلف حسب المقال).

 

Al Jazeera

 

المؤلف: فريق الجزيرة

 

الدولة: قطر

 

تاريخ ومكان النشر: موقع الجزيرة الإلكتروني (تاريخ النشر يختلف حسب المقال).

 

The Economist

 

المؤلف: فريق The Economist

 

الدولة: المملكة المتحدة

 

تاريخ ومكان النشر: أسبوعية The Economist (تاريخ النشر يختلف حسب المقال).

 

Foreign Affairs

 

المؤلف: فريق Foreign Affairs

 

الدولة: الولايات المتحدة الأمريكية

 

تاريخ ومكان النشر: نشر على موقع Foreign Affairs (تاريخ النشر يختلف حسب المقال).

 

10. "The Gas Fields of the Eastern Mediterranean"

 

المؤلف: مقالات متنوعة من تقارير الطاقة

 

الدولة: دول مختلفة (تقارير دولية متعددة)

 

تاريخ ومكان النشر: تقارير متعددة (تاريخ النشر يختلف حسب التقرير).



مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

من نيبال إِلى غزّة: حين يُغلِقُ الحاكمُ أُذُنيهِ عن صرخاتِ شعبهِ!

القمع لا يقتل الأفكار، بل يورثها مزيداً من الاشتعال. وكل كلمة مكتومة تتحول جمراً تحت الرماد، تنتظر ريحاً صغيرة لتتحول ناراً تعصف ب… تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير