ترابُ فلسطين لا يحتضنُ الخونة!

منذ يومين   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

"حين تخون الوطن، لن تجد تراباً يحنّ عليك يوم موتك؛ ستشعر بالبرد حتى وأنت ميت."

غسان كنفاني.

في فلسطين، لا تُقال هذه الجملة عبثاً. ففي أرضٍ أنهكتها الحروبُ والخذلانُ والحصار، يصبح الانتماءُ فعلَ نجاة، وتغدو الخيانةُ حفرةً أعمق من القبر نفسه. فالوطنُ الذي يئنّ منذ أكثر من سبعة عقود لم يَعُد يحتمل خنجراً آخر من أبنائه.

 

في غزة التي تُصلّي على ركامها كلَّ فجر، تُكتب البطولة بالحبر والدمّ معاً. أطفالها يولدون على أصوات القصف، ويكبرون وهم يَعدّون أسماء الشهداء بدلَ الدروس. ومع ذلك لا تنطفئ فيهم جذوة الحياة، ولا تتوقّف الأمهات عن رفع الدعاء بين الغبار. غير أنّ الخيانة هناك لا تأتي دائماً من عدوٍّ واضح، بل من صمتٍ عربيٍّ رسميّ، ومن قلوبٍ تجمّدت أمام صور البيوت المهدّمة والأجساد الصغيرة المغسولة بالدخان.

 

أمّا الضفة الغربية، فتعرف مشهداً آخر من الألم. شوارعها تمشي على حذر، وجدرانها تحفظ أسماء الشهداء الذين مرّوا من هناك. تتناثر الحواجز كالألغام في الطرقات، وكلّ يومٍ يحمل اعتقالاً جديداً، أو بيتاً يُهدم، أو أمّاً تفقد قلبها خلف الأسلاك. ومع ذلك يبقى بين أبنائها من يبيع الموقف، ومن يساوم على الكرامة، ومن يرى في الخضوع سياسةً، وفي السكوت حكمةً.

 

الخيانة هنا ليست فقط فيمن يتعامل مع المحتلّ، بل في كلّ من صمت وهو قادرٌ على الكلام، وفي كلّ من أدار ظهره للدمّ الذي يسيل في الأزقة. الخيانة أن تُساوي بين القاتل والضحية، وأن تُبرّر الظلم تحت راية الواقعية أو السياسة أو الخوف.

 

وسيأتي اليوم الذي تلفظ فيه الأوطان كلّ الذين خانوها وباعوها وخذلوها وسرقوها ونهبوها؛ ستلفظهم كما تلفظ البحارُ والأنهارُ الجثث. فالوطنُ، مهما طال صبره، لا يغفر لمن طعن ذاكرته أو ساوم على كرامته.

 

وفلسطين، تلك التي تعلّمت كيف تمشي على الرماد، لم تَعُد تطلب من أحدٍ أن يبكيها، بل فقط أن يصدّقها. كلّ حجرٍ فيها يعرف أصوات أبنائه، وكلّ زيتونةٍ تحفظ أسماء من سقوها بعرقهم ودمهم.

ومن يخون ترابَه، لا يجدُ حتى في القبر مأوى دافئاً؛ فترابُ فلسطين لا يحتضن إلا من أحبّها بصدق.

 

في ليالي الحصار الطويلة، يتبادل الناس القصص عن المقاومين، عن الأسرى، عن المفقودين الذين ما زالوا في الذاكرة كأنّهم لم يرحلوا. ثمّة بردٌ يسكن القلوب، لكنه يزول عندما يسمع المرءُ صوتَ الأذان يتردّد من مئذنةٍ لم تُقصف بعد، أو يرى طفلاً يرفع العلم بيدٍ صغيرةٍ ترتجف.

 

لقد أصبحت فلسطين مرآةً للعالم: من أحبّها انكشفت روحه، ومن خانها انكشفت نواياه. في غزة والضفة والقدس، وفي المخيمات والشتات، ما زال هناك من يكتب بدمه سطور البقاء، وما زال هناك من يختار البرد على أن يبيع وطناً لم يُخلق للبيع.

 

وإن كانت الخيانة تترك صاحبها عارياً حتى في موته، فإن الوفاء لفلسطين يُبقيه حيّاً في ذاكرة الأرض. ففي النهاية، التراب لا يحنّ على من خانه، لكنه يحتضن من أحبّه… حتى بعد أن يصير تراباً مثله.

 

محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

باسل الأعرج… حين تصنعُ الأُمُّ بوصلة المُقاومةِ الأُولى

في واحدة من أكثر الشهادات كثافةً وامتلاءً بالمعنى، كتب الشهيد باسل الأعرج: «إنّ أمي قد حبّبتني بالنبيّ المقاتل أكثر من النبيّ المس… تتمة »


    ابراهيم العلي

    في ظلال يوم الأرض الفلسطينون : متجذرون ولانقبل التفريط

    ابراهيم العلي

     يعد انتزاع الاراضي من أصحابها الأصليين الفلسطينيين والإستيلاء عليها أحد أهم مرتكزات المشروع الصهيوني الاحلالي ، فالأيدلوجية الصهي… تتمة »


    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية..
صامدون - عاملون - عائدون
    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية.. صامدون - عاملون - عائدون