عبد الله كلَّم: الحنين الذي لم يُعانقه الوطن!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيأيها الراحلُ، قد مضيتَ كما يمضي القمرُ هارباً من عيون العاشقين، وكما يختفي الندى عن خدود الورود مع أول خيوط الفجر، وكما ترحل النوارس حين يضيق البحرُ بحزنه. رحلتَ وتركتَ خلفكَ ظلّاً تائهاً بين أشجار الزيتون، وصوتاً شجيّاً يتردّدُ في وادي القرن، ودمعةً حبيسةً في عيون جالين، قريتكَ التي ضمَّتكَ طفلاً بين أضلاعها، واحتَوتكَ شابّاً بأحلامك، ثم ودَّعتكَ شيخاً غريباً، منهكَ الروحِ وإن كان الجسدُ لا يزالُ هناك.
كان الحزنُ صديقك، فهل كنت وفيّاً له، أم هو الذي ما أنصفكَ؟ هل كنت تعانقه، أم أنه كان يطوّقُ روحك كالطيفِ الباكي؟ منذُ الطفولةِ وأنت تكتبُ وصيّة الألمِ على جبينِ الحياةِ، تنحني لواقعها حيناً، ثم تنتفضُ عليه، كزيتونةٍ عجوزٍ يتقاذفُها الريحُ، لكنها تأبى الانكسار. بكيتَ أمَّكَ عليا الجمعة صبيّاً، فغدوت يتيماً يخطو بين الأقدارِ كما يخطو الليلُ على وجهِ العتمة، ثم أتى الفراقُ مرةً أخرى حين اختطفتك يدُ الزمنِ من أخيك فهد، ذاك الذي لم يمهلهُ الاحتلالُ البريطانيُّ ليودّعكَ. فعرفتَ معنى الغيابِ مبكّراً، وعرفت أن الأرض وحدها من تبقى حين يتهاوى الجميعُ في هاويةِ الذكرى.
كم حلمتَ بفلسطين، حلمتَ بها كما يحلمُ الطيرُ بجناحيه، كما تحلمُ الأرضُ بالمطر، كما يحلمُ المسافرُ بالوطن. كنتَ تنظرُ إلى الجنوبِ كأنك ترى في الأفقِ باباً مفتوحاً للعودةِ، لكنّ البابَ ظلَّ موصداً، والمفتاحَ ضاعَ بينَ أصابعِ الزمنِ الغادر. كم بكيتَ ولم يسمعكَ أحد، وكم ناجيتَ فلسطين بصمتٍ، لكنها لم تجبكَ. كنتَ كلَّ مساءٍ ترصفُ الأقمارَ في سماءِ الغربةِ كأنها قناديلُ الطريقِ، لكنها لم تُنِر دربَ الرجوع. كنتَ تعانقُ السنونو العائدَ إلى أوطانه، كأنّكَ تستعيرُ منه جناحيه، لكنّكَ ظللتَ هناك، غريباً عن الدارِ وإن كنتَ الأقربَ إليها.
أيها العائدُ إلى الترابِ، هل سكنتَ فيه كما سكنكَ الحنينُ؟ هل هدأت روحكَ بعدما أتعبها السفرُ الذي لم يكن؟ هل عانقَ جسدُكَ الأرضَ التي أحبَّها، أم أنَّ شوقكَ امتدَّ حتى في الموتِ فلم تجد فيه سكينةً؟ أي لوعةٍ كانت تسكنكَ، وأي قلبٍ كنتَ تحمله؟ كنتَ تحيا جسداً في المنفى، لكنَّ روحكَ كانت تمتدُّ إلى هناك، حيثُ الأرضُ التي أنبتتك، والتربةُ التي زرعتَ فيها حلمَ العودةِ ولم تحصده.
يا أبا علي، كيف يمضي الذين حملوا أوطانهم في صدورهم؟ كيف تغيبُ الشموعُ التي كانت تتوهجُ بالحنينِ؟ كيف تخفتُ الأغنيةُ التي لم تُغنَّ بعد؟
رحلتَ يا عبد الله كما يرحلُ المساءُ خجلاً من فجرٍ لا يأتي، كما يذوبُ الثلجُ فوق قمةِ الجرمقِ دون أن يبلغَ الجبالَ سلامُك الأخير.
كنتَ كالمطرِ الذي وعدَ الأرضَ بالهطولِ، لكنه توقفَ عند أولِ الغيمِ، وكنتَ كالنهرِ الذي عرفَ طريقَه إلى البحرِ، لكنه لم يصله أبداً.
يا من كنت الحلم المؤجَّل، والحكاية التي لم تكتمل، والأغنية التي لم تجد مقامَها، كيف مضيتَ وتركتَ خلفكَ وطناً لا يزالُ معلقاً بين الرجاءِ والتيه؟ كيف غادرتَ وفي قلبكَ عطشٌ للعودةِ لم تروهِ كلُّ أنهارِ العالم؟ كنتَ كطائرٍ جريحٍ يبحثُ عن عشه، لكنَّ العشَّ ظلَّ بعيداً، كزهرةٍ اقتلعتها الريحُ قبل أن تفُوحَ رائحتُها، كقنديلٍ كان يحترقُ ليضيءَ الدربَ لغيره، لكنه لم يرَ النورَ الذي حلمَ به يوماً.
وداعاً يا عبد الله، وداعاً أيها العاشقُ لفلسطين، وداعاً أيها الزيتونُ الذي لم ينحنِ للريحِ، ولكنّه انحنى للفراق الأخير. وداعاً أيها العائدُ إلى الأرضِ التي لم تخنكَ يوماً، وداعاً يا من تركتَ خلفكَ الحنينَ مشتعلاً، والعودةَ التي لم تتحقَّق، والدمعةَ التي لم تجفَّ بعد.
نم قريرَ العينِ، فقد كنتَ في الحياةِ جسراً إلى الوطنِ، وفي الموتِ ذاكرةً لا تموت.
أضف تعليق
قواعد المشاركة