حين لا يُمهلُ القدرُ الطُّيُورَ الأَصيلة.. وداعاً سليم فرحات.

منذ 7 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

غادرنا سليم فرحات فرحات (أبو كريم) كما تُغادرُ الطُّيورُ الأصيلةُ السماءَ عند أوَّلِ إشراقةٍ للفجر، دون أن تُودِّعَ أعشاشَها، ودون أن تلتفتَ للخلف.

 لم تقتله حربُ المخيَّمات، ولم تفتك به نيرانُ النِّزاعات، لكنَّه رحلَ حين دقَّت السَّاعةُ التي لا تُؤجلُ أجلاً ، فالموتُ لا يمنحُ مهلةً للوداع.

كيف لمن عرف الشَّقاءَ منذُ طفولتهِ أن يُغمِضَ عينيهِ بهذه العجلة؟

 لقد قاومَ الموتَ سنينَ، ثمَّ استسلمَ له في لحظةٍ خاطفة، كأنَّما كان يُودِّعُ الدُّنيا بنظرةٍ أخيرةٍ دون أن نشعر!

 

يا سليم، أيُّ ريحٍ حملتكَ بعيداً بهذه السُّرعة؟ أكنتَ مُستعجلاً للحاقِ بوالدكَ الذي سبقتكَ روحُهُ منذُ أسابيع؟ أم أنَّ قلبكَ لم يحتمل فراقهُ، فاختارَ أن يذوبَ معه كما تذوبُ الشُّموعُ حين تتعانقُ مع اللَّهب؟ كنت نوراً في عتمةِ المخيَّم، تُنيرُ طريق الآخرين دون أن تطلب نوراً لنفسك. كنت الجسر بين الحُلمِ والواقعِ، بينَ الغُربةِ والانتماءِ، بين البقاءِ والرَّحيل، لكنَّك رحلت قبل أن ينتهيَ المسير، رحلت دون وداع، دون أن تمنحنا فُرصةً لنقول: انتظر!

 

لقد كان الموتُ عادلاً في ظلمهِ، فقد أخذكَ كما يأخذُ الطَّيِّبين، بغتةً، دون ضجيج، كأنَّكَ حُلمٌ تسلَّلَ من بينِ أيدينا قبل أن نعيشهُ حتَّى النِّهاية. يا سليم، ألم تقل لنا ذات يومٍ إنَّ الأوطانَ لا تموت، وإنَّ الرِّجالَ يبقونَ في ذاكرةِ الأرض؟ ها نحن اليوم نُردِّدُ كلماتِكَ، لكنَّنا نُكابرُ الحُزنَ الذي يأبى إلَّا أن يكونَ سيِّدَ اللَّحظة.

 

إنَّها مُفارقةُ القدر، فقد نجوتَ من جحيمِ الحرب، وتجاوزتَ أهوالَ اللُّجوءِ، لكنَّكَ لم تنجُ من سهمِ الموتِ حين انطلق بلا إنذار. كأنَّما الدُّنيا أرادت أن تقولَ لنا: "الموتُ لا ينتظرُ أحداً، حتَّى مَن ظنَّ أنَّهُ مُؤجَّلٌ إلى حين."

 

حين تلتقي روحُكَ بروحِ والدِكَ، ماذا ستخبره؟ هل ستقولُ لهُ إنَّ القدس ما زالت أسيرة، وإنَّ الوحدة سرابٌ في صحراءِ الخذلان؟ هل ستخبره عن أمَّةٍ تُصلِّي في المساجد، لكنها نسيت أنَّ السجودَ لا يليقُ إلا لله، لا للمصالحِ ولا للخوف؟

 

هل ستخبره أنَّ الأقصى ما زال يبكي، وأنَّ فلسطين تُباعُ في سوقِ السياسةِ كما تُباعُ السِّلعُ الرخيصة؟ هل ستخبره أنَّ الأخ قد خان، والصديقَ قد طعن، وأنَّ من حملَ السلاحَ يوماً للمقاومة، صارَ يُشهره في وجهِ إخوته؟

 

يا سليم، كيف ستصفُ لهُ هذا المشهد؟ هل ستقولُ لهُ إنَّ الصمتَ أصبحَ لغة العرب، وإنَّ الخيانة صارت عقداً مكتوباً بدماءِ الشهداء؟ هل ستخبره أنَّ الطُّغاة يتصافحون فوق الجراح، بينما ترتفعُ قبابُ القدسِ شامخةً رغم الألم؟

 

يا سليم، قُل لهُ إنَّ فلسطين لم تمت، لكنها تنزفُ بصمت، كما ينزفُ جرحٌ عميقٌ بلا طبيب . قُل لهُ إنَّ اللَّيل مهما طال، فإنَّ الفجر سيأتي، وإنَّ الظلم مهما استبد، فإنَّ العدل لا يموت، وإنَّ من خانَ اليوم، ستلعنهُ الأيامُ غداً.

 

سلامٌ عليك، وسلامٌ على من سبقوك إلى عالمٍ لا خيانة فيه، حيثُ الحقُّ لا يُساوَمُ عليه، وحيثُ الأرواحُ تلتقي على نقاءِ الحقيقةِ لا على زيفِ الشعارات.

مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

من نيبال إِلى غزّة: حين يُغلِقُ الحاكمُ أُذُنيهِ عن صرخاتِ شعبهِ!

القمع لا يقتل الأفكار، بل يورثها مزيداً من الاشتعال. وكل كلمة مكتومة تتحول جمراً تحت الرماد، تنتظر ريحاً صغيرة لتتحول ناراً تعصف ب… تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    معايدة رمضانية 

تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.

 رمضان كريم 
نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى.

كل عام وأنتم بخير 
    معايدة رمضانية  تتقدم شبكة العودة الإخبارية بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى أمتنا العربية والإسلامية، وخاصة شعبنا الفلسطيني العظيم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.  رمضان كريم  نسأل الله أن يعيده علينا بالخير واليُمن والبركات، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى. كل عام وأنتم بخير