فاطمة فاعور.. أُمُّ الشهداء التي ودَّعتهُم ثُمَّ لحِقَت بِهِم

منذ 9 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

في منزلٍ متواضعٍ في مخيم كفربدا، عاشت فاطمة محمد فاعور، المرأة التي لم تكن مجرد أمٍّ، بل كانت مدرسةً في الصبر والجهاد، وحاضنةً لأبطالٍ نقشوا أسماءهم على صفحات المقاومة بدمائهم الطاهرة. لم يكن المَصِيرُ رحيماً بها، لكنه وهبها ما لا يُمنحُ إلا للقليلين: أمومةَ الشهداء، وشرفَ الفقدِ في سبيل الأرض، ووسامَ الصبرِ الذي لا يقدر عليه إلا العظماء.

بدأت حكايتُها مع الفقدِ حين وقف محمود ليكون أولَ المقاومين في جنوب لبنان عام 1982، حيث افتتح صفحةً جديدةً من التاريخ، لم يكتبها الحبرُ، بل الدمُ والنار. كان يدرك أن دربَه محفوفٌ بالمخاطر، لكنها لم تثنِهِ، بل ربَّتهُ ليكون شعلةً تُضيءُ عتمةَ الاحتلال. وعندما جاءها خبرُ استشهاده يوم 1-9-1982، رفعت رأسها، وأخفت دمعَها عن صغارها، وقالت: "محمود ما مات... بل بدأ الحياةَ الحقيقية هناك، حيث لا ظلمَ ولا احتلال."

ثم جاء دور إبراهيم، الشابِّ الذي حمل على كتفيه أمانةَ المقاومة، لكنَّ يدَ الغدرِ لم ترحمه، فسقط شهيداً في مخيم شاتيلا يوم 5-1-1988، ليس برصاص العدوِّ، بل على يد رفاقِ الخندق. لم تزدها الفاجعةُ إلا ثباتاً، ولم يقلّ في قلبها اليقينُ لحظةً واحدة.

أما الضربةُ الأقسى، فكانت عندما جاءها خبرُ استشهادِ آخرِ أبنائها، محمود (أبي)، يوم 25-3-2010، الذي لم يكن يحمل سلاحاً، بل كان يؤدي واجبَه الإنسانيَّ والأخلاقيَّ. قُتل ظلماً، لتكتمل مأساةُ أمٍّ لم تعرف إلا الفقد، لكنها أيضاً لم تعرف إلا الصبر.

في جنازتهم جميعاً، كانت تسير شامخةً، تحبس دموعها، لكنها ترفع صوتها بالدعاء: "اللهمَّ تقبَّلهم عندك شهداء، وارزقني الصبرَ كما رزقتني العزَّة."

لم تكن فاطمة محمد فاعور مجردَ أمٍّ، بل كانت أيقونةً للصمود، امرأةً تحدَّت الألم، وربَّت أبطالاً، ومضت في طريقها شامخةً، كأنها جبالُ الجنوبِ التي لا تهزُّها الرياح.

بعد سنواتٍ من الصبرِ والفقد، رحلت أمُّ الشهداء يوم 20-9-2011.

لم يعد جسدُها قادراً على حمل أوجاعها، ولم يعد قلبُها يحتمل الفراغَ الذي خلَّفه غيابُهم. كأن روحها ظلَّت معلَّقةً بينهم، تنتظر اللِّحاقَ بهم، حتى جاء يومُ الرحيل، وكأنها كانت على موعدٍ طال انتظاره.

لم تُودِّع أحداً، ولم تَشكُ ألمَها، بل أغمضت عينيها للمرة الأخيرة، بنفس الصبرِ الذي رافقها طوال حياتها، ورحلت بهدوءٍ كما يرحل الأبطالُ بعد انتهاء معركتهم، لكنها لم تمت... بل لحقت بأبنائها، حيث لا وداعَ ولا دموع، حيث يلتئم الجرحُ الذي أثقل قلبها طويلاً.

اليوم، لم تعد وحدَها، ولم يعد بيتُها موحشاً، بل امتلأ بضحكاتِ محمود وإبراهيم وأبي، وعادت أُمُّهم إليهم، كما كانت تتمنَّى. رحلت، لكنَّ ذكراها بقيت منقوشةً في قلوبِ من عرفوها، تروي حكايةَ امرأةٍ لم تهزمها الحياةُ، بل هزمتها بشموخ، ورحلت وهي تحمل وسامَ الصبرِ والشجاعةِ والشهامةِ إلى الأبد.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

باسل الأعرج… حين تصنعُ الأُمُّ بوصلة المُقاومةِ الأُولى

في واحدة من أكثر الشهادات كثافةً وامتلاءً بالمعنى، كتب الشهيد باسل الأعرج: «إنّ أمي قد حبّبتني بالنبيّ المقاتل أكثر من النبيّ المس… تتمة »


    ابراهيم العلي

    في ظلال يوم الأرض الفلسطينون : متجذرون ولانقبل التفريط

    ابراهيم العلي

     يعد انتزاع الاراضي من أصحابها الأصليين الفلسطينيين والإستيلاء عليها أحد أهم مرتكزات المشروع الصهيوني الاحلالي ، فالأيدلوجية الصهي… تتمة »


    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية..
صامدون - عاملون - عائدون
    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية.. صامدون - عاملون - عائدون