غزة.. صرخةٌ في وجهِ الخذلانِ!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي بُقعةٍ صغيرةٍ على خارطةِ العالمِ، تُحاصرُ غزة، ليس فقط بالأسلاكِ الشَّائكةِ والطَّائراتِ التي لا تغيبُ، بل بحصارٍ أشدَّ وأقسى—صمتِ العالمِ وخذلانِ الإخوةِ. وسطَ ضجيجِ الأخبارِ المُتلاحِقةِ والحروبِ والصِّراعاتِ، يبدو أنَّ أرواحَ شهداءِ غزة تُطمَسُ تحت رُكامِ هذا الصَّخبِ، كما تُطمَسُ تحت أنقاضِ البيوتِ المُدمَّرةِ.
غزة لا تموتُ فقط حين تسقُطُ القذائفُ؛ بل حين يَغُضُّ العالمُ الطَّرفَ عنها، وكأنَّها وجعٌ اعتياديٌّ اعتادتهُ الإنسانيَّةُ.
في كلِّ يومٍ، تُودِّعُ غزة شهداء، يُزفُّونَ في جنازاتٍ سريعةٍ لأنَّ السَّماء نفسها مُهدَّدةٌ، في انتظار قذيفةٍ جديدةٍ.
هؤلاء الشُّهداءُ همُ الأملُ الذي يعلو فوق صوتِ الخرابِ، والصَّرخةُ الصَّامتةُ التي لا تجدُ من يسمعُها.
هناك، لا يُقاسُ العُمرُ بالسَّنواتِ، بل بعددِ المرَّاتِ التي نجا فيها من الموتِ.
هناك، الحزنُ ليس حالةً عابرةً؛ هو وطنٌ مقيمٌ في القلوبِ التي ودَّعت الأحباب واحداً تلو الآخرِ. الفقدانُ في غزة ليس استثناءً، بل قاعدةً، والحرمانُ ليس مرحلةً مؤقَّتةً، بل حياةً كاملةً.
بردُ الشِّتاءِ في غزة ليس كأيِّ بردٍ. إنَّه بردُ الوحدةِ، والدُّموعِ التي لا تجدُ ما يمسحُها.
الجوعُ هناك ليس مجرَّد نقصٍ في الطَّعامِ، بل وجعُ كرامةٍ تُداسُ يوميّاً.
الأطفالُ يحلُمونَ، لكنَّ أحلامهم لا تتعدَّى شربةَ ماءٍ نظيفةٍ أو نوماً بلا خوفٍ. المرضُ في غزة لا يُعالجُ، والفقدانُ لا يُعوَّضُ، والحرمانُ هو القاسمُ المُشتركُ لكلِّ شيءٍ.
المجازرُ في غزة ليست صُوراً عابرةً في شريط الأخبارِ؛ إنَّها أرواحٌ تُزهَقُ، ودماءٌ تُراقُ، وأحلامٌ تُهدمُ.
من المؤلم أن يتحوَّل الألمُ إلى مشهدٍ روتينيٍّ في أعينِ المُتابعينَ.
من المُخيفِ أن تُصبحَ جثثُ الأطفالِ وأُمَّهاتهم أرقاماً تُحصى ثمَّ تُنسى.
غزة ليست مجرَّد "خبرٍ عاجلٍ" يختفي مع نهايةِ اليومِ.
إنَّها حكايةُ دمٍ لا يجفُّ، وصمودٍ يُعلِّمُ العالَمَ معنى الكرامةِ.
ولكن أين العالمُ الإسلاميُّ؟
أين الأُمَّةُ التي تهتفُ في المساجدِ "واإسلاماه"؟
ما أصعب أن تشعر غزة أنَّها تُقاتلُ وحدها، في وقتٍ يُشغلُ الجميعُ بضجيجِ المُلهياتِ.
العربُ باتوا غارقين في صراعاتِهم، والمُسلمون يُطأطِئونَ رؤوسهم في خجلٍ أو لامبالاةٍ. كيف يُغضُّ العالمُ طرفهُ عن أُمَّةٍ تُبادُ؟ أليس من المؤلم أن يصلَ الخذلانُ إلى حدٍّ يجعل الظَّالم يشعرُ بالأمانِ، والمظلوم يُحارِبُ الريحَ وحدهُ؟
غزة لا تحتاجُ شفقةً، بل تحتاجُ صوتاً.
من العارِ أن نسمحَ لمجازرها أن تضيعَ في صَخبِ الأحداثِ. ارفعوا أصواتكم، اكتبوا، تحدَّثوا، استصرخوا العالم من أجلِ غزة.
إنَّ صمت العالم لا يَقتُلُ فقط شعبها، بل يَقتُلُ فينا الإنسانيَّةَ.
كلَّما تكرَّرتِ المآسي ولم يتحرَّك أحدٌ، كلَّما ترسَّخت فكرةُ أنَّ غزة وحدها.
ولكنَّنا لن نسمح أن تُمحى فلسطين من الذاكرةِ.
تذكَّروا دائماً: غزة ليست مجرَّد قضيَّةٍ، إنَّها امتحانُ ضميرِ البشريَّةِ.
تبقى غزة أَسيرةَ الأَلم، تَئِنُّ تحت وطأَةِ القذائفِ، وتخنُقُهَا أَصداءُ الصَّمتِ الَّذي يَلِفُّ العالمَ. لا أَحد يلتفتُ إِليها، ولا أَحد يتوقَّفُ ليمسحَ دُمُوعها أَو يرفعُ الظُّلم عنها.
في هذا الزَّمنِ، يبدُو أَنَّ الخذلانَ قد أَصبحَ قدراً، والخذلانُ العربيُّ والإِسلاميُّ هُو أَكبرُ جُرحٍ يُضَافُ إِلى جراحها العميقةِ.
تتناثرُ الأَحلامُ بين رُكَّامِ المنازلِ، ويظلُّ الأَطفالُ يتساءَلُونَ: "متى يأْتي الفرجُ؟" ولكن لا أَحد يُجِيبُ.
إِنَّ مرارةَ الخيبةِ تزدادُ كُلَّ يومٍ، والوجعُ يُصبِحُ أَكثر قسوةً حين نشعُرُ أَنَّ دماء الشُّهداءِ قد تاهت في زحمةِ الأَخبارِ، وحين يُنسَى صراخُهَا في خضمِّ اللَّامُبالاةِ.
غزة لا تزالُ تُقاومُ، ولكن كم من المُقاومين يُمكِنُ أَن يتحمَّلُوا وحدهم هذا العِبءَ؟
في زمن الخذلانِ، تظلُّ غزة حكايةً حزينةً تتكرَّرُ، ولا أَحد يكترثُ لِمَا يحدُثُ في أَرضها.
وفي وُجُودِ كُلِّ هذا الأَلم، تبقى في قُلُوبِ أَهل غزة بذرةٌ صغيرةٌ من الأَمل، أَملٌ بِأَن يأتي الفجرُ يوماً ما، رغم طُولِ ظُلمةِ اللَّيلِ.
أضف تعليق
قواعد المشاركة