نزار بنات: شهيدُ الكلمةِ في لحظةِ غدرٍ!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي فجرٍ مظلمٍ يشبهُ قسوةَ الظلمِ، سُلبَ منا نزار بنات، الرجلُ الذي كانت كلماتهُ أقوى من كلِّ سلاحٍ، وقلبهُ أسمى من كلِّ خوفٍ. في فجرِ يومِ 24 يونيو 2021، امتدت يدُ الغدرِ لتطفئَ شعلةَ إنسانٍ حملَ على عاتقهِ همومَ وطنهِ، ولم يَخشَ في الحقِّ لومةَ لائمٍ.
لم يكن اغتيالُ نزار مجردَ فقدانٍ لرجلٍ، بل كان جرحاً غائراً في ضميرِ الأمةِ وفاجعةً تركت خلفها ألماً لا يُوصفُ.
باغتيالهِ، خسرنا أباً حنوناً لأطفالهِ الخمسةِ، وزوجاً مخلصاً لرفيقةِ دربهِ، وإنساناً عاشَ لقضيتهِ حتى النهايةِ. لكنَّ قسوةَ الفقدِ تتضاعفُ حين لا يعودُ الأبُ ليحتضنَ أطفالهُ، ولا الزوجُ ليشاركَ زوجتهُ رحلةَ الحياةِ.
غادرنا نزار، لكن صرختهُ في وجهِ الظلمِ ستظلُّ تترددُ في القلوبِ شاهدةً على جريمةٍ لا تُغتفرُ.
غُيِّبَ نزار بنات عن الحياةِ بوحشيةٍ، ليصبحَ شهيدَ الكلمةِ الحرةِ وضحيةَ القمعِ والاستبدادِ.
لم يكن اغتيالهُ جريمةً عاديةً، بل طعنةً في قلبِ الوطنِ ووصمةَ عارٍ على جبينِ من استباحَ كرامةَ الإنسانِ.
نزار، الرجلُ الذي قاومَ الظلمَ بكلماتهِ الجريئةِ وفضحَ الفسادَ بلسانهِ الصادقِ، لم يملك سلاحاً سوى صوتهِ. اُغتيلَ لأنَّهُ رفض أن يَسْكُتَ، وحملَ رايةَ الحريةِ في وجهِ الطغيانِ، تاركاً خلفهُ زوجتهُ جيهان وخمسةَ أطفالٍ صغارٍ يواجهونَ مصيراً مجهولاً ومؤلماً.
لم تكن جيهان مجردَ زوجةٍ؛ بل كانت شريكةَ نزار في رحلتهِ الشاقةِ. تحملت معهُ أعباءَ النضالِ والقلقَ الدائمَ على سلامتهِ، لكنها لم تتخيل يوماً أن يصبحَ حبُّ حياتها ضحيةَ الغدرِ.
منذ اغتيالهِ، وجدت زوجته نفسها وحيدةً في مواجهةِ عالمٍ قاسٍ، تحاولُ لملمةَ شتاتِ قلبها المحطمِ بينما تحملُ مسؤوليةَ خمسةِ أطفالٍ فقدوا الأبَ والملاذَ.
تعيشُ زوجته اليومَ بين الحزنِ والمقاومةِ؛ فهي لم تفقد فقط زوجاً، بل شريكاً كان يزرعُ الأملَ في البيتِ رغمَ المعاناةِ. أصبحت أيامها مزيجاً من الذكرياتِ المؤلمةِ والدموعِ التي لا تجفُّ، ومع ذلك تقفُ شامخةً، حاميةً لإرثِ نزار ومطالبةً بالعدالةِ التي تأخرت كثيراً.
خمسةُ أطفالٍ بريئين، أكبرهم لم يبلغ سنواتِ المراهقةِ، وجدوا أنفسهم فجأةً في عالمٍ بلا أبٍ. يعيشونَ حزناً عميقاً، يتساءلونَ يومياً لماذا غابَ والدهم ولماذا أُخذَ منهم بهذه الطريقةِ البشعةِ.
كانت ضحكاتهم تملأُ البيتَ، لكنها تحولت إلى صمتٍ ثقيلٍ يعكسُ خوفهم من مستقبلٍ غامضٍ.
كلُّ طفلٍ يحملُ جزءاً من نزار؛ في عيونهم بريقُ شجاعتهِ، وفي قلوبهم براءةٌ لم تستحق هذا الألمَ. يكبرونَ وهم يدركونَ أن والدهم لم يكن رجلاً عادياً، بل كان بطلاً واجهَ الظلمَ ودفعَ حياته ثمناً لذلك، لكنَّ معرفةَ الحقيقةِ لا تعوضهم عن الحنانِ المفقودِ، ولا تمسحُ دموعهم حين يفتقدونَ ابتسامتهُ وصوتهُ الدافئ.
اغتيالُ نزار لم ينتهِ عند فقدانهِ؛ فقد تركَ خلفهُ عائلةً تكافحُ للحياةِ وضميراً جماعياً يتألمُ لغيابهِ.
جيهان وأطفالهُ الخمسةُ اليومَ رمزٌ للصمودِ وشهادةٌ حيةٌ على وحشيةِ الظلمِ وإرثِ رجلٍ رفضَ أن يبيعَ كلمتهُ أو يخونَ مبادئهُ.
جيهان تقاومُ الحزنَ لتربيَ أطفالها على القيمِ التي استشهدَ والدهم لأجلها.
والأطفالُ يكبرونَ وهم يعلمونَ أن اسمَ والدهم سيظلُّ نبراساً لكلِّ من يؤمنُ بالحريةِ والعدالةِ.
غابَ نزار عن عائلتهِ وأحبابهِ، لكنَّ روحهُ تبقى حاضرةً في كلِّ كلمةِ حقٍّ تُقال، وفي كلِّ خطوةٍ تُخطى نحو الحريةِ. اغتيالهُ كان محاولةً لإخمادِ صوتهِ، لكنه أصبحَ رمزاً عالمياً للإنسانيةِ المغدورةِ والعدالةِ التي لا بدَّ أن تأتي يوماً.
لقد غُيِّبَ نزار بنات عن الحياةِ، لكن صوتهُ لم يَغِب ، وروحهُ لم تُطفأ.
الظلمُ الذي اغتالهُ لن يدومَ، لأنَّ عدالةَ السماءِ لا تعرفُ النسيانَ. قد يتأخرُ الحسابُ في أعينِ البشرِ، لكنه آتٍ لا محالةَ. كلُّ دمعةٍ سالت من عيونِ أطفالهِ، وكلُّ صرخةِ ألمٍ من زوجتهِ، وكلُّ صوتٍ حرٍّ نادى بحقهِ، هي شهادةٌ أمامَ عدالةٍ لا تخطئُ.
سيظلُّ نزار بنات حاضراً في ذاكرةِ الأحرارِ، وستبقى قضيتهُ رمزاً للصراعِ بين الحقِّ والظلمِ ومهما طالَ الزمنُ، فإنَّ يومَ الحسابِ قادمٌ، وحينها سيُطفأُ جمرُ القلوبِ، وستشرقُ شمسُ الحريةِ التي ناضلَ نزار من أجلها.
إلى روحِ نزار بنات،
في ليلةِ الغَدرِ، وبينما كنتُ أُصارعُ ثقلَ الأيامِ، وجدتُ أكثرَ من خمسِ اتصالاتٍ فائتةٍ منك. كنتَ دائماً هادئاً، صلباً، وصاحبَ كلمةٍ. لكنْ عندما عاودتُ الاتصالَ، وجدتُ في صوتِكَ شيئاً مختلفاً... كان هناكَ توتّرٌ لم أعتدهُ منك.
كنتُ أعلمُ أنَّ صمتَكَ الطويلَ لن يُبقيكَ بعيداً عن الأذى، لكنَّني لم أتخيَّل أنَّ تلكَ الليلةَ ستكونُ وداعكَ الأخيرَ.
كنتَ تسيرُ بنا نحو الأملِ، تُنادي بالحريَّةِ، وتصرُخُ في وجهِ الظلمِ حتى صار صوتُكَ شوكةً في حلقِ من يخافُ الحقيقة.
أيُّها الشجاعُ الذي لم يخف في زمنِ الجُبنِ، وداعاً.
ليتني استجبتُ لندائِكَ في الوقتِ المناسبِ، ليتَ المكالمة الأخيرة كانت أطول، ليت في قلبي مساحةً أقلَّ من النَّدمِ، وأكثر من الصَّبرِ على هذا الوجعِ.
نزار... لن تكون غائباً، ستبقى كلماتُكَ تُضيءُ الدروبَ المظلمةَ. ستظلُّ روحُكَ دليلاً لكلِّ من يرفضُ أن ينحني، ولكلِّ من يُؤمنُ أنَّ الحقيقةَ لا تموتُ.
نزار، لن نَخذُلَك ولن ننساك. صوتُكَ سيبقى هادياً للأَحرارِ، وذكراك شمساً لا تنطفئُ في سماءِ الحقيقةِ.
أضف تعليق
قواعد المشاركة