الخُبّيزة: وفاءُ الأرضِ وخذلانُ الذاكرةِ!

منذ شهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

كنتُ خبيراً في إعدادِ الخُبّيزةِ مع الشُّومَرِ، أتقنتُ مزجَ نكهاتِها وسبرتُ أغوارَ أسرارِها. كانت وصفتي الخاصّة أشبهَ بلحنٍ مُتقنٍ يعزفُ على أوتارِ الذّائقةِ، ومع كلِّ مرّةٍ أطبخُها، كنتُ أشعرُ بالفخرِ، وكأنّني أستعيدُ جزءاً من ذاكرتي الجمعيّةِ، حيثُ تتداخلُ روائحُ الماضي مع دفءِ الحاضرِ.

 

الخُبّيزةُ، هذه النبتةُ التي تنبُتُ في تُرْبةِ الجليلِ الخصبةِ شمالَ فلسطينَ، تحمِلُ في أوراقِها عبقَ الأرضِ التي أنجبتْها.

تُعتبَرُ الخُبّيزةُ أكلةَ الفُقراءِ وغذاءَهمُ المُفضَّلَ الذي يُقاوِمُ الجوعَ ويحتضِنُهم في مواسمِ القَحطِ. أوراقُها الخضراءُ كانت كفّاً حنوناً يُطعِمُ العائلاتِ الفقيرةَ، والشُّومَرُ الذي يُضافُ إليها يُضفي عليها نكهةً غنيّةً تُشبِهُ رائحةَ الحقولِ.

 

الخُبّيزةُ خدمتِ الشعبَ الفلسطينيَّ أكثرَ من جميعِ الدولِ العربيّةِ والإسلاميّةِ، فلم تخذلْهم يوماً، ولم تقفْ مكتوفةً أمامَ حاجتِهم. كانت دائماً إلى جانبِهم في أوقاتِ القحطِ والحربِ والحصارِ، تسدُّ رَمَقَهم حين عزَّ الغذاءُ وشحَّتِ المواردُ، كأنّها قطعةٌ من ترابِ الوطنِ، تمدُّ جذورَها في أعماقِ الأرضِ وتُعلّمُ أبناءَها الصمودَ.

 

لكنَّ اليومَ، أشعرُ وكأنَّ الذاكرةَ تخونُني، وكأنَّ سنواتِ الخبرةِ تتبخَّرُ أمامَ عينيَّ. أقفُ في المطبخِ حائراً، أنظرُ إلى الخُبّيزةِ والشُّومَرِ وكأنّهما غريبانِ عني. أينَ ذهبتْ تلكَ البراعةُ؟ كيفَ لي أن أنسى ما كنتُ أُبرِعُ فيه يوماً؟

أشعرُ كأنَّني لم أطبخْها في حياتي قطُّ، وكأنَّ تلكَ الأطباقَ التي صنعتُها بحبٍّ وشغفٍ أصبحتْ أطيافاً منسيّةً في زاويةِ النسيانِ.

إنَّه خذلانٌ من نوعٍ خاصٍّ، خذلانُ الذاكرةِ التي كنتُ أستندُ إليها في الغربة، خذلانُ التفاصيلِ الصغيرةِ التي كانت تربطُني بماضٍ أعتزُّ به.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

أم ناظم: دموعُ الانتظارِ وحلمٌ ماتَ في أحضانِ الغيابِ!

في أزقّةِ مخيّمِ شاتيلا، حيثُ تختلطُ رائحةُ الأرضِ المبتلّةِ بدموعِ المنفى، وحيثُ تروي الجدرانُ قصصاً عن اللجوءِ والمقاومةِ، سكنت … تتمة »


    ياسر علي

    مؤسسة "هوية".. نموذج فاعل في الحفاظ على الانتماء الفلسطيني

    ياسر علي

    جاء المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية-هوية في سياق اهتمام الشعب الفلسطيني وأبنائه ومؤسساته بالحفاظ على جذور ه وعاد… تتمة »


    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية..
صامدون - عاملون - عائدون
    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية.. صامدون - عاملون - عائدون