أنْجزَ ما عليه وَرحلَ
محمود كلّم
كاتب فلسطينيلا يهمني أبداً انحداره الطبقيّ، ولا حتى انتماؤه، أو جنسيته ولونه. وربما لا يعني هذا لكثيرين غيري. لكن الذي كان يدهشني فيه هو انحيازه واندفاعه الذي لا يعرف التراجع، أو المهادنة، أو التراخي والتذبذب. يعجبني فيه انتصاره، وهو البعيد عن عالمنا الممتلئ صخباً وضجيجاً ودخاناً وموتاً، لقضايا الشعوب والإنسانية وكل المضطهدين في العالم. حيث كان يجد متعته وقد تكاملت وهو يتقاسم الهموم معهم، ويتلمس عذاباتهم عن قرب، ويشدّ جراحاتهم.
هذه كلمات لا تفيه حقه ولكنها حروف من وفاء لا بد منه لرجل يستحق كل الوفاء.
كانت سعادته فيما يستطيع ويقدر أن يفعله من أجلهم، تطفح بريقاً ولمعاناً على أديم وجهه كطوفان يغمر أرضاً يباساً لأول مرّة، وزورق تدفع الرياح به من غير توقفٍ صوب النهايات. كان النضال من أجل هؤلاء المعذبين في الأرض هاجسه اليومي، وغايته التي يسعى وهو المريض من أجل اكتمالها. كان ثوريّاً من طراز آخر، إنه طراز آخر من الرجال، ثوريّ في لباس الكهنوت. لم يقعده مرضه الذي مات فيه، ويبعده عمله عن الطريق الذي خَطّه ووضع قدميه على أرضه أول مرّة..
إنه فرناند تويل، الذي كانت روحه تحمل الجنسية الفلسطينية والانتماء لهذا الوطن المغتصب، قبل أن تمنحه السلطة الفلسطينية جواز سفرٍ يحمل اسم فلسطين؛ الأرض التي أحبها وعشقها وناضل من أجلها ومن أجل التطبيق الفعلي لحق العودة لجميع اللاجئين الفلسطينيين. جاب العالم طولاً وعرضاً ليعرّفَ العالم بقضية فلسطين. كان يؤمن بعدالة قضية فلسطين، وكان يعتبرها قضية تَمسُّ ضمير الإنسانية جمعاء، وهي قضية تختصر حقوق الإنسان والحرية والكرامة والعدل.
دافع عن حق أهلها في العودة من الشتات، ووضعها زهرة على صدره، كما حملها أغنيةً في روحه، وحلماً بين جفنيه ينام. عمل من أجل إنجاز توأمة مدينة مونتانير الفرنسية مع مخيم الدهيشة منذ قرابة خمسة وعشرين عاماً. إنه المقاتل العنيد، والراوي المجهول، ذاك الذي دفع بآلاف الفرنسيين تضامناً مع الشعب الفلسطيني في محنته، وللتعرف عن قرب إلى أوجاعهم ومعاناتهم. كما كان يحثهم دوماً على ضرورة إقامة مشاريع إنسانية لدعم المخيمات الفلسطينية. كان صديقاً للراحل ياسر عرفات، لكنه لم يستثمر تلك العلاقة لمنفعة ذاتية أو موقف شخصي. بل كان سعيه منصبًّا على تغيير الواقع على الأرض وذلك من خلال النضال الشّاق والدؤوب، حيث تمكن عام 1989 مع رفاقه من الفرنسيين وأصدقائهم من توأمة مدينة مونتاتير مع مخيم الدهيشة في محافظة بيت لحم. وفي عام 1999 جرى تأسيس جمعية التوأمة بين المخيمات الفلسطينية والمدن الفرنسية AJPF حيث يشترك في رئاستها مع أحمد محيسن من مخيم الدهيشة. وفي عام 2002 وفي شهر أيلول أثمرت مساعيه من أجل إقامة توأمة بين مخيم شاتيلا ومدينة بانوليه الفرنسية، كما كان دوره بارزاً لجانب دور مارك ايفربك ودانيال مانن.
علينا أن لا ننسى بأن شعار لجنة التوأمة الأول كان حق الفلسطينيين بالعودة إلى أرضهم. كان فرناند تويل يصارع المرض من أجل البقاء، لكن صراعه من أجل حق الفلسطينيين في أرضهم كان فوق جبروت المرض وقسوته. لم يتكاسل ولم يتوانَ ولم يتراجع حتى رحل عن عالم الخذلان هذا. المجد والخلود لك وأنت في مثواك أيها الصديق والابن البار لشعبنا الفلسطيني، واعلم أنّك ستبقى خالداً في ذاكرة شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات.
أضف تعليق
قواعد المشاركة