فرح فلسطيني صغير في لندن
كانت سفرتي إلى لندن هذه المرة أصعب من سابقاتها، فقضاء خمس ساعات على ارتفاع ثلاثين ألف قدم ومحشورًا في كرسي يشبه القفص، لم تعد مهمة عادية لمن اجتاز عتبة الستين بقلب هرم مسكون بوجع كثير، وبرئتين أعطبت أطرافهما سجائر الشباب وسمنة بغيضة فضاقتا حتى صارتا كرئتي عصفور.
دعاني «الاتحاد العام للجاليات الفلسطينية في أوروبا» «ولجنة حركة فتح إقليم بريطانيا» للمشاركة بندوة يقيمانها حول الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال وليعرض خلالها فيلم «مروان» الذي أنتج مؤخرًا وعرض في فلسطين وغيرها.
وصلت لندن ووجدت بين المنظمين قلقاً، فلقد أعلموني عن تغيير مكان الندوة بعد تراجع إدارة الفندق عن احتضانها راضخين لضغوطات «اللوبي الصهيوني» وتهديداته.
في المطار استقبلتنا ابنة غزة والسفارة، ميسون الشرفا، وأخبرتنا أن فندقًا آخر اختير لإقامة النشاط وقد تعاقد المسؤولون فيه مع المنظمين على ذلك.
لندن في هذه الأيام تبدو كسيدة في خمسينياتها،لا تخفي إرباكها ولا تحتفي بأنوثتها الملتبسة، ورغم ذلك قد تحبها لأنها مأوى لوخز التاريخ وإغوائه وتذكار للحكمة وابنها الندم، ولأنها، رغم التجاعيد البارزة في صدرها، لا تخجل من ليلها وتنام على خواصر دامية وعلى دلع.
«كيف تركت فلسطين؟» كان سؤال كل اللحظات والمحطات؛ هكذا سألت ميسون بعد لحظة لقائنا الأولى، وهكذا سألني الصديق إبن القدس ميشيل عبدالمسيح، المحامي الشهير، الفلسطيني دومًا والبريطاني إقامة، الذي جاء مساءً ليصطحبنا الى أحد المطاعم القريبة من فندقنا. إنه أصعب الأسئلة إذا ما تعمدت الإجابة عليه بلغة النساك الذين لا يكذبون، لكنه أهونها إذا نسلته من «كبكوبة» صوف جدتك؛ ففلسطين سيدة المدى وتنفس الصبح عبر الأزمان، عند عتباتها تخثر التاريخ وفي أحشائها تكسّر، فكيف تركتها إذًا؟
تركتها جافلة تفتش عن نجاة وعن ثدي يحصّنها ولا يدمي شفاهها الغضة، تمامًا كما جفلت جدتي وجدتك عند أول النباح ولمّا غادرتهن القوافل وتبعت رائحة التوابل والوعود المسكرة، وتركتها غير واثقة من برق السماء وعواء الريح وشحوب القمر، فهي حبلى بفرح البسطاء وسذاجتهم وبالزكام، أما قدسها، تلك التي شربْتٓها أنت على مهل صغيرًا وحين كنتٓ تتمرمغ في تراب شوارعها القديمة، لم تعد، كما أخبرْتٓني وحلمُك، فهي اليوم، يا عبد المسيح، ليست غنجة «المجدلية» ترديك كما كانت تفعل في الصباح وتحييك عند أقدام المساء، قدسك رحلت في أعقاب تلك القوافل وتحت عباءات الغيوم، واستوطن في جنبات بيوتها الجريحة الضعف ونما الملح وطغى الرياء وفوق بواباتها تتنازع الأنبياء.
لم أنتبه لردة فعله على كلامي، فلقد انشغلت في متابعة سيل من رسائل زملائي المحامين العاملين معنا في نادي الأسير الفلسطيني وبعضها كان يوجز لي نتائج زياراتهم، وأخرى تخبرني برفض إعطائهم من مصلحة السجون الإسرائيلية تصاريح لزيارة للأسرى المضربين، وذلك في مسعى لتضييق الخناق وإحكام عزل الأسرى حتى عن محاميهم، بهدف كسرهم وهزيمتهم في الأيام الأولى «للمعركة».
نظرت إليه وقد ألقى برأسه على حائط كان وراءه، بدا مهمومًا وفي عينيه حنين للقدس ينافسه تعب واضح، وجهه اكتسى سمرة لم يغيرها ضباب لندن، وشاربه المميز كان يقظًا يخبئ تحته بسمة وشت بأنه، رغم الخسارات التي عاشها وعاشتها مدينته، لم يزل متفائلًا، فهو المحامي العنيد الذي يعرف طعم النصر خاصة ذلك الذي يحرز بعد الهزيمة والكبوات.
بعد لحظات من الصمت اقترح أن نختار ما سنأكل ليستأنف بعدها الكلام، فهذه المرة عليه الدور وإجابة تساؤلي: كيف ينجح اللوبي اليهودي بضغوطه و»نحن» عاجزون عن إفشاله في أبسط المهام حتى في لندن التي كانت ولم تزل عاصمة العرب الأثيرة وموعدهم مع الفجر البسام وحلبتهم للرقص مع العبث ومع لينات الملامس.
في صباح اليوم التالي أُخبرت أن الفندق الثاني تراجع عن موافقته على عرض الفيلم وإقامة الندوة في إحدى قاعاته، خاضعًا، بدوره، لضغوطات «اللوبي الصهيوني» وبدعم، هذه المرة، من عناصر رسمية في الشرطة وبلدية لندن. في البداية انتشر الغضب بين المنظمين والحيرة ، لكنهم لم ييأسوا، بل، كما تبين لاحقًا، زادتهم هذه المطاردة إصرارًا وعزمًا، فباشروا بتوجيه الجمهور إلى مركز «البيت الفلسطيني» البعيد نسبيًا، وهناك تم عرض الفيلم وأقيمت الندوة بنجاح، رغم ما سبقها من تداعيات وإلغاءات وعراقيل، وهذا ما دفعهم إلى أعادة العرض والمحاضرة مرة ثانية في مقر الغرفة التجارية العربية البريطانية وبنجاح لا يقل عن سابقتها.
في الليل اجتمعنا، فلسطينيون قادمون من وطن معرض في كل لحظة للانفجار أو ربما لتيهان جديد في دروب الغيب والسراب، ومنفيون يعيشون هناك على حافة العتمة بلا دلال ولا ترف ولا حتى راحة عادية، فالمنفى مكلف بالبؤس والركض وراء «الخبز الحافي»، ومهاجرون صارت لبعضهم لندن فضاءً يحميهم وبيتًا يؤوي أحلامهم التي ما زالت تؤثث لياليهم بذوق فلسطيني رفيع وبنكهة البرتقال وطعم الزيت والزعتر.
سألوني عن الأسرى وإضرابهم وعن القدس وأسوارها وعن غزة ورام الله وعن الأمس والغد والذي بعده. أجبتهم بما أعرف ولم أخفِ ما يوجعني ويقلقني، لأنه، في الواقع، يوجعهم ويقلقهم؛ فعندهم ما عندنا من «فتح « وأفخاذها وحمائلها وبطونها، وعندهم «حماس» التي لا تشارك حتى وهي في المنفى في ندوة عن الأسرى، وعندهم أتباع «دحلان» الذين يقاطعون نشاطًا عن نضالات الحركة الأسيرة لأنه من تنظيم «فتح أبو مازن»، وعندهم فتحاويون يحسدون «مروان» على سجنه ويخشون من «نجوميته» واضرابه.
هكذا في لندن وفي جميع أنحاء الشتات الفلسطيني، فهم فلسطينيون مثلنا، وإن كان هنا الصوت فهناك الصدى، وكل ما نجده هناك أوجدناه في البدء هنا: فمعظم الأسرى لم ينضموا للإضراب لأنهم أبناء في السجون لآباء طلقاء، وولاءاتهم دومًا لما تخطه العصي في شوارع الوطن وميادينه وما يمليه الدم وتوثقه العرى، فقبائل «الحماس» لن تسير وراء قبائل «الفتح» ولن ترجو نصرها حتى لو كان على سجان يقمعهم ويقمع جميع الفلسطينيين معهم، وبعض بطون قبيلة «الفتح» لم تشارك في الإضراب لأنها ترفض أن تكون عونًا لفخذ «البرغوثي» وحلفائه من آل يونس وحميد وعويس وغيرهم، وبعيدًا عن السجون نرى في غزة إمارة وفي رام الله سلطة ولا يجمع بينهما سوى ضرائب الكلام وما تخبئه خوابي السياسة والدواهي .فكيف لا ينجح اللوبي الصهيوني بملاحقة عرض فيلم وندوة وحفلة ورقصة وعرس ومأتم في لندن والقدس وبرلين وأوتاوا؟
ينجحون لأنهم كلٌ في واحد، وفي كل واحد كلٌ، فالصهيوني في العالم يشعر بأن واجبه القومي يحتم عليه الوقوف في وجه أي نشاط فلسطيني، صغيرًا كان أم كبيرًا، وهو يقوم بدوره بلا علاقة لانتمائه السياسي الحزبي أو الحركي الفئوي الضيق؛ فما نسميه « باللوبي الصهيوني» هو في الواقع عبارة عن جسم متخيّل أو شخصية غازية «هيليومية» منتشرة هنا وهناك، أو كائن له آلاف الأذرع «الهيولية» التي لا ترى ولا تحس حتى تضرب وتخنق وتنسل على مهل.
بالمقابل سنجد في الجالية الواحدة لوبيات فلسطينية ولوبيات عربية وكلها تحارب كلها وتتناكف حتى يتحول مجرد عرض فيلم ومحاضرة إلى مهمة أصعب من رفع صخرة الحق على مسرح يصير عمليًا أعلى من جبل الجرمق.
لقد حللت قبل أربعة أعوام، في ذكرى يوم التضامن مع الأسير الفلسطيني، ضيفًا على الجالية الفلسطينية، وحينها شعرت أن لندن كلها صارت جالية، أما هذه المرة فوجدت الجالية جاليات ولندن تبتعد عنها وتتغير؛ فعدت إلى الوطن حزينًا، لكنني لم أخبر الأسرى عن مئات سيارات الأشقاء العرب وهي تملأ أرصفة الشوارع وواجهات الفنادق الفارهة، سيارات من صنع الجن وخياله تجوب بعنجهية وتكبّر مستفزين، وأصحابها يتكدسون في الغرف الوثيرة ويمارسون رياضات الضياع، ولن أخبرهم عن عذابات جالية صغيرة وصراعاتها، فللحقيقة، يحاول بعض بناتها وأبنائها أن يبقوا الشعلة مضاءةً وصوت الوجع الفلسطيني رنانًا في أرجاء مدينة تتصرف كأنثى في خمسينها.
لقد نجحوا بعرض فيلم «مروان» مرتين ومرتين جعلوا صوت الحرية الفلسطينية يصدح وذلك بعكس ما تمنته أنوف كثيرة، فصنعوا في لندن فرحًا فلسطينيًا صغيرًا.
ألم تكن أفراحنا في فلسطين دومًا صغيرة؟
جواد بولس- القدس العربي
أضف تعليق
قواعد المشاركة