«الكمنجاتي» في المخيمات: موسيقى لحياة أفضل
بين الأزّقة والبيوت المكتظة في مخيم برج البراجنة يتغلغل الفرح. مصدره أنامل أطفال وقلوبهم وآلات موسيقية وُزّعت عليهم ليرسموا فلسطين بصورتها الأبهى.
هؤلاء ما كانوا ليقاربوا الموسيقى لولا «جمعية الكمنجاتي». وقد أراد مؤسّسها رمزي أبو رضوان أن يحظى كل طفل فلسطيني من خلالها بالفرصة التي اغتنمها صغيراً وحوّلته إلى موسيقي عالمي.
هكذا يكون الموعد بعد ظهر كلّ أحد في مركز «بيت أطفال الصمود» حيث يلتقي أطفال وشباب وشابات بأساتذة موسيقى. فيتوزّعون على صفوف يحاولون فيها جاهدين عزف التراث الفلسطيني وأغاني فيروز ومقاطع موسيقية سوف تجمعهم في أكثر من مناسبة وأكثر من احتفال.
لا تهدف الجمعية إلى الترفيه عن هؤلاء الأطفال فحسب، بل إن المناهج التي تتبعها وأسلوب التعليم تشي بالتأسيس لكوادر موسيقية ناشئة بين اللاجئين الفلسطينيين.
يتعلّم أحمد حسين إبن الحادية عشرة العزف على آلة العود منذ ثلاثة أشهر. يرى فيها آلة سهلة وذات صوت جميل. يقول إنّه يتدرّب لمدة ساعة واحدة يومياً على الآلة التي أمنتها له الجمعية والتي يصطحبها معه إلى البيت عند انتهاء الدروس يوم الأحد. أحمد ليس الوحيد من أفراد العائلة الذي يستفيد من تقديمات «الكمنجاتي»، فشقيقته سبقته إليها وهي تتعلّم الآلة ذاتها.
وقد كانت الجمعية بمثابة حلم يتحقق لمحمد الفايد الذي يرتادها منذ أربع سنوات لتعلّم آلة الطبلة. فهو كان يحلم بالعزف عليها في صغره ويهواها كثيراً.
شكّلت «الكمنجاتي» أيضاً نقطة تحوّل بالنسبة إلى داوود حسين إبن الرابعة عشرة الذي تلقّى دروسه في آلة الكمان منذ افتتاح نشاط الجمعية في لبنان في العام 2008. وعمر علاقته مع الآلة ست سنوات، بات بعدها عضواً في فرقة «الكمنجاتي» الجماعية كما في فرقة الغناء. وهو من الذين شاركوا في المخيم الصيفي الذي تنظمه الجمعية، والذي تعطي فيه دروساً مكثفة للموسيقيين الصغار لمدة خمسة أيام.
لم يتردّد القيّمون على «بيت أطفال الصمود» بتقديم كل الدعم اللوجستي لإنجاح تجربة «الكمنجاتي»، فإنّ الموسيقى، بحسب رأيهم، فرصة لخلق مساحات غير متاحة لأطفال المخيم، كما أنّها تساهم في تهذيب شخصياتهم ومساعدتهم على نموّ سليم وإكسابهم الجرأة. بالإضافة إلى اكتساب مهارات فنيّة قد تكون فرصة لمهنة يكتسبون منها رزقاً.
يتسلّل صوت الناي من باب إحدى الغرف، هو لحن «طيري يا طيارة طيري» الذي يعيد الطالب لأزمته مرات عدة. أستاذ الناي حازم أبو زيد الآتي من مدينة صور يحثّ تلميذه على المثابرة. يدعمه بجرعة من الثقة والإيجابية، يقول: «بإمكانك عزف اللحن بسهولة..».
يروي أبو زيد أنّ الطلاب وإن أتوا بإرادتهم تحقيقاً لحلم أو لاكتساب هواية، لا يعرفون بداية ما معنى صف ودروس خارج إطار المدرسة. فهم «يعتقدون أنّ هناك محاسبة وقصاصاً ويتفاجؤون بجوّ الفرح الذي يغلّف الدروس الفردية والجماعية على حدّ سواء».
يسترجع كلام أحد طلابه حين قال منفعلاً «أستاذ لم أنم بالأمس بسبب حماسي للعزف. بت أنتظر يوم الأحد بفارغ الصبر وكأني ذاهب في رحلة».
ويلفت أستاذ العود تمام سعيد، أنه تفاجأ بوجود مواهب كثيرة وجديّة. فهناك من يتقن التقنيات ويترجمها كآلة، لكن هناك أيضاً من يضيف من ذاته إلى كل ما يقدّم له من دروس. وهو يفخر أن ثلاثة من طلّابه انتقلوا إلى «الكونسرفاتوار» الوطني للموسيقى.
أما أستاذ الكمان علاء رشيد، فيعتبر أنّ خطة العمل التي وضعتها «الكمنجاتي» من شأنها أن تنتج موسيقيين للمستقبل وتقدّم فرصة للتعبير سلمياً لهؤلاء الأطفال.
ويستفيد من الفرصة التي تقدّمها الجمعية أطفال من مخيم شاتيلا، وهم مجموعة من نحو 500 طالب يدرسون العزف على آلات وتخصصات في الموسيقى على أيدي أساتذة «الكمنجاتي»، ويضاف إليهم نحو 2000 طالب من تلامذة مدارس «الأونروا» في لبنان كما في فلسطين.
ويفخر رمزي أبو رضوان أن عدداً قليلاً ممن يرتادون الجمعية يتركونها قبل أن يكملوا دروسهم، بينما الأكثرية تواصل تعليمها لإتقان هواية، «حتى أن بعضهم استثمرها للعمل في فرق زفّة ومجموعات فولكلورية».
تأسّست الجمعية في العام 2002، ومنذ ذلك الوقت وهي تحمل شعار «موسيقى لحياة أفضل». ويصرّ أبو رضوان على تقديم التعليم الموسيقي بجودة عالية، فيصل الطلاب من خلال صفوف الجمعية إلى المستوى الثامن المتعارف عليه في الكونسرفاتوارات الوطنية.
وتجمع «الكمنجاتي» عدداً من الطلّاب في مخيمات صيفية، «يتحاورون» فيها موسيقياً لتنتهي بحفلات عامة، كان آخرها في «الجامعة الأميركية في بيروت» يوم ارتدى أهل المخيم بذلات سوداء وقمصاناً بيضاً للعب برنامج موسيقي بإتقان.
وإذا كانت الموسيقى عالماً خاصاً جميلاً ومسالماً، فقد أراد أبو رضوان تعليم كل جوانبها إلى الأطفال الفلسطينيين، إذ أنشأ مشاغل لصناعة وصيانة الآلات الموسيقية ودوزان وإصلاح آلة البيانو. وأرسل باسم الجمعية ثلاثة طلّاب للاحتراف في كل من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا «ليعودوا وينقلوها إلى طلّاب آخرين في فلسطين ولبنان». وذلك بفعل تقديمات الشركاء ومبادرات فردية.
إلى ذلك، تمكّنت «الكمنجاتي» من عقد اتفاقية مع «المعهد العالي للموسيقى» في لبنان، الذي سيستقبل طلّاباً فلسطينيين. وسيتحوّل هؤلاء إلى أساتذة في «الكمنجاتي» لنقل تجربتهم إلى أجيال تلي. في المقابل، يزور موسيقيون فلسطينيون تابعون للجمعية معهد الموسيقى اللبناني لصيانة آلاته ودوزنتها كعملية تبادل خبرات.
المصدر: السفير
أضف تعليق
قواعد المشاركة