انهم أهل التجارة والشطارة والكرم اللامحدود، الأخف ظلاً في فلسطين، فالنكت كلها عن «الخلايلة»، رغم أن الخليل هي ثالث المدن من حيث عدد المستوطنات بعد القدس ورام الله، ورغم قسوة التقسيم حتى في مركزها لاسيما البلدة القديمة، وقسّم الاحتلال حتى الحرم الابراهيمي واستولى على معظمه، وهدم اجزاءً منه.. وصادر حتى حرية الأذان!

كانت تستغرق الطريق من رام الله إلى الخليل أربعين دقيقة عبر القدس، أصبحت اليوم ساعتين فأكثر مع استحالة دخول القدس.

انطلقنا من رام الله ومررنا عبر قرى القدس كأبوديس والعيزرية والسواحرة الواقعة خارج الجدار، وهي طريق تؤدي أيضاً إلى مدينة بيت لح. مررنا عن كبرى مستوطنات الضفة «معاليه أدوميم»، يقابلنا حاجز «الكونتينر» الذي يفصل المدينتين عن بقية المحافظات.

الحاجز هو بداية طريق وادي النار المنحدرة والخطرة لاسيما قبل توسعتها. بعض الشوارع التي اجتزناها مخصصة للمستوطنين، منها طريق مستوطنة «كفار عتصيون» وهي جزء من المخطط الاسرائيلي لما يسمى القدس الكبرى. كان للمدينة المحاصرة عدة مداخل، لكنها حالياً بمدخل يتيم من الجهة الشرقية لبلدة حلحول التابعة للمحافظة والتي يقطنها 800 ألف نسمة أي ربع سكان الضفة، ويقطنها 17500 مستوطن يعيشون في 55 مستوطنة وموقع عسكري.

إلى البلدة القديمة

رافق فريق القبس حسام عابدين مدير العلاقات العامة في محافظة الخليل.،في عمره الخمسيني وبحكم وظيفته كان يعرف الجميع حتى أن مجرد إلقائه التحية يلي ذلك الترحيب الحار وعرض مغر بـ«توصيلة». سرنا في ثلاث عشرة حارة للبلدة وهي تضم أحد عشر جامعاً، وتسعة أسواق تنسب للعائلات والحرف اليدوية التي تشتهر بها الخليل ،منها أسواق اللبن، الغزل، الحُصرية (مفردها حصيرة)، القزازين وسوق اللحامين.

المتاجر المغلقة

في البلدة 1863 متجراً مغلقاً، عدا البيوت والتي استولى عليها الاحتلال بأوامر عسكرية، ضمن مخطط تفريغ البلدة القديمة. لذا تحركت السلطة الفلسطينية ولجنة إعمار الخليل التي قامت بترميم العديد من المنازل وتمديد الكهرباء وتوفير المياه لهم لدعم صمودهم وبقائهم في البلدة، وتشجيع التجار لفتح متاجرهم، وفعلاً أعيد فتح %30 من المتاجر. وضمن سياسة دعم صمود البلدة قامت بعض المتاجر في البلدة والتابعة لمصانع في الخليل ببيع منتجاتهم بأسعار مخفضة، لتشجيع المواطنين على التسوق من البلدة. ورأينا متاجر مغلقة قام أصحابها بعرض بضائعهم على بسطات مقابلها، ومن فتحة صغيرة من بوابة أحد هذه المتاجر شاهدت بضاعتهم التالفة والتي لم يسمح لهم حتى بإخراجها.

احذروا النظر الى السماء!

أنت تسير بين أزقة البلدة القديمة لا ينصح بالنظر الى أعلى، أولاً: لأنك ستجد أن المنازل العلوية استولى عليها المستوطنون وحولوا مداخلها لجهة أخرى لا نراها، كجزء من مستوطنة «هداسا» التي أنشئت عام 1980 إثر عملية الدبويا التي قتل فيها الفدائيون عدداً من الجنود والمستوطنين الذين احتلوا عمارة الدبويا وسط البلدة. والمستوطنة تعد لاسرائيل مركزاً سياسياً ودينياً كبيراً. ثانياً: لأن شبكا علقه الفلسطينيون ليكف عنهم سلوك المستوطنين الذين يلقون بالقمامة عليهم. رأينا القمامة على هذا الشبك الذي يعاد بناؤه كلما تلف!

الماضي الكنعاني

قرب الحرم الابراهيمي الشريف، حيث مدفن سيدنا ابراهيم عليه السلام، تشكلت معالم البلدة القديمة في الخليل الواقعة ضمن وادي الخليل وفيها أشجار الفاكهة والعنب والزيتون وغيرها وعيون الماء العذبة. الوادي كان أحد الطرق التجارية المهمة التي تصل الخليل بمصر والكرك. أما بداية تكون البلدة فكانت في موقعها الكنعاني الأول في تل الرميدة في جبل الخليل منذ ألفي عام، والذي بقي حتى العصر الاسلامي بعد أن فتحها صلاح الدين الأيوبي، ثم انتقل العمران إلى الوادي قرب المسجد الابراهيمي.

الطريق إلى الحرم

كل الطرق في البلدة القديمة تؤدي إلى الحرم، لكننا اليوم نقف قرب المسجد فلا نستطيع الدخول، وقمنا بالالتفاف طويلاً حتى وصلنا فاستقبلنا الجنود برشاشاتهم، وهم يستفزون المصلين إلى درجة شتم النبي محمد (ص)، والتحرش بالنساء ومطالبتهن بنزع الحجاب بحجة التفتيش. قاموا بتفتيشنا واحتجاز هوياتنا لحين عودتنا من المسجد. وقد علق حسام الذي حفظ هؤلاء الجنود، بأن جندياً لئيماً جديداً يفرد عضلاته على الفلسطينيين وينكل بهم.

رفضنا احتجاز الهويات واستعدناها قبل دخول المسجد، الذي دمر الاحتلال مدخله الرئيسي عام 1968 وتم إخلاء منازل لفتح طريق خاص للمستوطنين، كما جرف مباني أثرية اسلامية لاقامة حديقة في ساحة المسجد.

في المسجد الإبراهيمي
استقبلنا أمجد زيد الجعبري (35 عاماً) الذي يسكن قرب المسجد، وأحد الشهود الذين هرعوا إلى مكان المذبحة فجر فبراير 1994 بعد تكبيرات المصلين وصراخهم: «مجزرة.. مجزرة». شاهد 29 جثة قتلها باروخ غولدشتاين أثناء الصلاة وأصاب 150 آخرين.

كان وقتها في الخامسة عشرة، ومع ذلك لم تهزه الصورة الدامية، وها هو يتحدث برباطة جأش متسلحاً بإيمانه، عن المكان وعن لجنة «شمغار» التي تشكلت إثر المجزرة وإغلاق البلدة القديمة تسعة أشهر، بل وقسّمت الحرم بين الاسرائيليين والفلسطينيين، فاستولوا على معظم أجزائه، وأقروا فتح الحرم بقسميه عشرة أيام فقط للمسلمين سنوياً، بينما سمح لهم بزيارة القسم الفلسطيني طوال السنة.

معالم المسجد

عند دخول المسجد تشاهد مقامات الأنبياء: ابراهيم واسحق ويعقوب عليهم السلام وزوجاتهم، وتقع قبورهم تحت المسجد على عمق 16 متراً، وعند مقام سيدنا ابراهيم دعاني أمجد لمشاهدته عبر نافذة يمكن عبرها رؤية القسم الاسرائيلي، مما دفع الاسرائيليين لوضع فاصل زجاجي مقاوم للرصاص وسط غرفة المقام، وقال لي أمجد: نحن هنا لنصلي فقط!

شاهدت البوابات الحديدية التي تفصل القسمين عن بعضهما. بل إن غرفة الأذان أصبحت ضمن القسم الاسرائيلي، ولا بد للمؤذن من موافقة اسرائيلية لدخولها كل مرة مع تفتيش دقيق، أما أذان المغرب فهو ممنوع حتى إشعار آخر، ويمنع الأذان نهائياً يوم السبت (الخاص بالديانة اليهودية).

وكان منبر صلاح الدين الأيوبي شامخاً مثل هذا القائد الذي كان له هنا أول خطاب بعد انتصار المسلمين في معركة حطين التي حررت البلاد من الصليبيين، أما السقف فكان كنائسياً أمرت ببنائه الملكة هيلانة والدة امبراطور روما الذي حكم المنطقة آنذاك.

«سيلفي» في مخيم العرّوب

خرجنا من مدينة الخليل متجهين إلى المخيم الموجود على بعد عشرين دقيقة منها. هو سجن ضيق ومعزول عن المحافظة.. انتظرنا اسحق محيسن على المدخل، حيث نقطة الاحتكاك مع الاحتلال الذي يبدأ بإلقاء القنابل، فيرد أهل المخيم بالحجارة، فتقع الاصابات.

في المحافظة مخيمان: العروب وفيه عشرة آلاف لاجئ ينحدرون من 33 قرية، ومخيم الفوار الذي يقطنه ثمانية آلاف ينحدرون من 18 قرية. أخذنا اسحق إلى منزله، حيث التقينا بوالدته وبفنان تشكيلي، ما أن رأته الحاجة رابعة البدوي (80 عاماً) حتى عاتبته على نشر صورتهما «السلفي» على الفيسبوك، فمازحها بأنها حصدت عشرات اللايكات. وسبب عتابها أنها لم تكن تضع «ضبة الأسنان»!

الحب ومصير الأربعة

على مدخل منزله أشار اسحق إلى مربع صغير فيه نبتة تحاول الحياة، فقال مازحاً: «هذه حديقة المنزل». أما والدته الحاجة رابعة فروت أجمل ذكرياتها مع زوجها الراحل الذي تزوجته ضمن ما يسمى زواج البدل: فهي وأخوها تزوجا شقيقين، وحين انفصل أخوها عن زوجته وحسب العادات لا بد أن تنفصل هي عن زوجها، وهو ما حدث.
وفي تلك الفترة ما بعد النكبة ذهبت مع الكثيرين للعمل في سوريا في الزراعة. لم يطق زوجها غيابها فلحق بها مصراً على استعادتها، فخرق الحب جدار العادات بل وعاد أخوها هو ايضا الى زوجته وبقيا إلى وقتنا هذا.

الفنان الذي اعتقل.. ولوحة بحاجة إلى تعديل!

أعد محمد الطيطي (18 عاماً) نفسه للسفر لدراسة الفنون في ألمانيا واتم امتحان اللغة. وقبل سفره بأسبوع اعتقل إثر لوحة عن الشهداء اعتبرها الاحتلال تحريضاً. اليوم يدرس القانون في جامعة الخليل متأخراً عن زملائه بفصل دراسي. يقضي وقته بالرسم وتعليم الخط العربي، ومن رسماته لوحة بدا فيها أسير يقف خلف باب السجن. اليوم يريد محمد تعديلها فتدخل ريشته الزنزانة ومنها يرسم أسيراً على شكل هيكل عظمي ورأسه تمثال الحرية وفي يده ملعقة كبيرة ومكبل اليدين، في إشارة الى اضراب الأسرى عن الطعام.

المائدة الخليلية

لا يمكن زيارة الخليل من دون أن تمر رائحة لحمة الخروف هنا وهنا.، ولا أشهر من طبق المنسف الخليلي، فضلا عن رائحة رقبة الخروف أو الكتف المحشو بالأرز واللحمة، ومع ذلك فلحمة الجمل هي الأكثر تداولاً في المدينة. يهتم «الخلايلة» أيضاً بالطعام البلدي من بيض وسمنة بلدية، وها هو حسام يوصي على 150 كيلوغرام من السمنة لعائلته واخوته التسعة. هذا السخاء لا ينفي عنهم أنهم «اقتصاديون»، فمع نهاية الأسبوع تتكون المائدة من بقاياً أصناف الطعام التي طهيت على مدار الأسبوع.