آفاق المقاطعة الفلسطينية الاقتصادية لإسرائيل

منذ 8 سنوات   شارك:

رجا الخالدي

باحث وخبير اقتصادي فلسطيني

كتب في عام 1949 أحد أعضاء الهيئة العربية العليا (في مذكرات نشرت مؤخرا فقط) عن محاولات فرض المقاطعة على الاقتصاد اليهودي بعد عام، متسائلاً إذا كان الشعب الفلسطيني وقيادته واقتصاده جاهزين فعلاً لخوض ‘حرب اقتصادية اجتماعية لا هوادة فيها’ للانفصال عن الهيمنة الصهيونية وكسر الطوق التجاري والمالي المفروض وما سماها حين ذاك ‘تشابك مصالح العرب بمصالح اليهود’؟ للأسف، فإنه بعد 70 سنة هذا السؤال ما زال مطروحاً، حيث أن الإجابة عليه عند طرحه وحتى اليوم هي ما تزال بالنفي.

تاريخ نضالي عريق لسلاح المقاطعة

ضمن المساعي لتصميم بدائل واقعية لتغيير الوضع الراهن الفلسطيني واستشراف الاستراتيجيات الجديدة الكفيلة بإخراج القضية الفلسطينية من ‘القفص الحديدي’ الذي بات يشكله ارث اتفاقيات أوسلو وإفرازاتها السياسية والمؤسسية. فإن أحدى أبرز الوسائل النضالية المنتشرة حديثا التي يبدو أنها قد تشكّل أداةً فاعلةً في مواجهة إسرائيل تكمن فيما يعرف بـ ‘المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات (BDS)’، التي ظهرت في إطار حملات التضامن الطلابية والنقابية الدولية مع فلسطين يقوم بالترويج لها لجنة وطنية فلسطينية وأنصار فلسطين في الخارج.

وهي تشكل نموذجا آخر لحملات مقاطعة إسرائيل أو المؤسسات الاستعمارية والصهيونية تبناها الشعب الفلسطيني في مواجهته المتواصلة مع الصهيونية والاحتلال، ابتداءً من إضرابات ثورة 1936-1939 مروراً بمرحلة مقاطعة جامعة الدول العربية إبّان نكبة فلسطين عام 1948 والمساعي الوطنية لممارسة المقاطعة المحلية في المواجهة مع الحركة الصهيونية والاقتصاد اليهودي، لتتجدد موجاتها في الامتناع عن العمل داخل إسرائيل وعن تسديد الضرائب الإسرائيلية والإضرابات التجارية أثناء الانتفاضة الأولى اعتبارا من عام 1988.

وتجددت حملات المقاطعة الدولية خلال السنوات العشر الماضية في إطار ال(BDS)، مما ساعد على تشجيع مبادرات رسمية فلسطينية منذ 2010 حينما اعتمدت وطبقت بفعالية السلطة الفلسطينية قانون يحرم التجارة مع سلع وخدمات المستوطنات الإسرائيلية ثم حملات شعبية محلية خاصة بعد العدوان على غزة عام 2014 للتوقف عن شراء وبيع المنتجات الاستهلاكية الإسرائيلية وخاصة الغذائية. ومع التفاوت بين كل هذه المستويات للمقاطعة (والتجارب التاريخية المذكورة) التي لكل منها أهدافها ووسائلها ومحدوديتها، بالإضافة الى خصوصيتها من حيث الغايات والشمولية وأمدها والآليات المستخدمة، فإن مصيرها كان غالباً (ما عدا الحملة الدولية القائمة ال BDS) الانحسار ونتائجها محدودة مقارنة بأهدافها المعلنة وأحبطت أو انهارت رغم مساهمتها المرحلية ربما في تعزيز وتنويع الجهد النضالي ضد الصهيونية والاستعمار والاحتلال.

إن نجاح سياسات المقاطعة في تجارب أخرى غير فلسطينية (وخاصة النضال ضد الابارتهايد في جنوب افريقيا) يظهر أنها قد تشكل سلاحاً فتاكاً في ظروف معينة. كما أن إمكانية فرض العقوبات الاقتصادية والعسكرية على الدول المتمردة على النظام العالمي أصبحت احدى أبرز الأدوات التي يلجأ لها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في معالجة الخلافات الدبلوماسية الدولية (وإيران ليس سوى أحدث مثال).

حان الوقت لاستخلاص أهم الدروس من تلك التجارب في عملية تقييم فرص النجاح لأية جهود قادمة وتعزيزها من خلال التخطيط السليم والقيادة الموسعة والمشاركة الجماهيرية لمختلف أشكال حملات المقاطعة التي يمكن أن تقام بفرصة معقولة للنجاح. هكذا في سياق البحث عن توجهات جديدة تعيد للنضال الوطني الفلسطيني قدرته على إيذاء الخصم وبناء الثقافة الكفاحية الجماعية، من المفيد دراسة احتمالات اعتماد استراتيجية مقاطعة فلسطينية وطنية لإسرائيل والتبعات والتأثيرات المحتملة لذلك في الأمدين المباشر والمتوسط، ضمن سيناريوهات مختلفة تتغير أهداف وأشكال المقاطعة فيها بحسب الظروف المحيطة والقوى المشاركة.

جزء من برنامج مقاومة شاملة

بالاستناد إلى ذلك الهدف الانفصالي الاقتصادي كسياق طويل المدى لاستراتيجية جديدة لاطلاق حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على الاحتلال الإسرائيلي، تتناول فيما يلي بعض السيناريوهات المعقولة والمتميزة لاتباع توجهات ‘لتغيير الوضع القائم’ من خلال تفعيل وتصعيد وتنسيق مبادرات المقاطعة لإسرائيل في السنوات القادمة. نحاول هنا تنظيم النقاش والتوصيات بشأن كل مستوى من مستويات المقاطعة الممكنة بحسب العوامل الخارجية المحددة، لها:

1- مواصلة التهدئة الحالية في غزة وعدم انجرار السلطة إلى انتفاضة 2015

في حال بقاء الانقسام السياسي والجغرافي والاقتصادي الحالي، فذلك يحد من إمكانية النهوض بحملات مقاطعة مؤثرة ومنظمة شعبية أو رسمية كانت، خاصة بسبب الحصار الشديد الذي ما زال مفروض على قطاع غزة التي لا تتموّن سوى من إسرائيل والقليل من الإنتاج الذي يستطيع اقتصاده المكبل الحفاظ عليه بعد حوالي عقد من الحصار والحرب والدمار. لكن هذا لا يمنع، السلطة الفلسطينية من إقرار تصعيد تطبيق قانون 2010 خاصة فيما يتعلق بإحياء صندوق الكرامة إلى جانب تطوير الحملات الطوعية الشعبية والدولية، وتطبيق تدريجي لسحب الأيدي العاملة الفلسطينية من المستوطنات، بالإضافة إلى تحضير رزمة من إجراءات الحماية للمنتجات الوطنية الزراعية والصناعية التحويلية والمعدنية والخدمات بالاستناد إلى دراسات اقتصادية وقانونية ولوجستية. وإذا قررت منظمة التحرير استخدام سلاحها الديبلوماسي المتوفر للترويج لفرض عقوبات دولية في الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية على التجارة مع اقتصاد المستوطنات الإسرائيلية، واذا امتنعت عن تصريحات تشكك بجدوى أو شرعية أعمال الـ BDS الدولية، فإنها حتما ستجد آذاناً صاغية لدى الجمهور السياسي الأوروبي والعالمي، وحشد جماهيري فلسطيني يؤيد التحرك الرسمي من خلال لجان الـ BDS الدولية. وضمن الظروف الراهنة هذا الحد الأدنى هو ربما أبعد ما يمكن تصويره من تحول في استراتيجيات المقاطعة.

2- إزالة آثار الانقسام الفلسطيني

لا نحتاج إلى خبير مختص ليؤكد على مدى الفائدة المحتملة على جميع الأصعدة الحياتية الفلسطينية من تحقيق المصالحة الوطنية وإزالة أثار الانقسام المدمر للمشروع الوطني والتحرري والتنموي الفلسطيني. واقتصادياً فإن مثل تلك التطورات يجب أن تنطوي على فتح فرص اندماج وتبادل اقتصادي بين الضفة والقطاع، وبين القطاع ومصر وفي التخطيط التنموي الاستراتيجي في جميع مجالات البنية التحتية (الطاقة، الاتصالات، الموارد الطبيعية والاتصالات والمواصلات وغيرها من قطاعات الأمن القومي الاقتصادي). وهذا بدوره يمهد لبلورة استراتيجيات مقاطعة وطنية انتقائية وثم متدحرجة، بالتوازي مع ‘دفعة كبرى’ للاستثمار في القطاعات الإنتاجية والبنية التحتية، وحملة دبلوماسية لفتح المعابر التجارية الفلسطينية على الحدود مع الأردن ومع مصر، بالإضافة إلى إجبار إسرائيل (في محافل منظمة التجارة العالمية) على تطبيق اتفاقية تسهيل التجارة لعام 2013 على التدفقات التجارية من وإلى الأراضي الفلسطينية عبر الموانئ الإسرائيلية. وحتى دون التوجه في المرحلة الأولى إلى مواجهة تجارية شاملة مع إسرائيل والاكتفاء بتطبيق قانون 2010 وبعض الإجراءات القطاعية الإدارية/الموسمية الحمائية لتشجيع الإنتاج والاستهلاك المحلي، فإن من شأن إزالة آثار الانقسام توفير دفعة داخلية قوية للمضي في خطة المقاطعة والانفصال الاقتصادي وتعبئة الجماهير حولها.

3- تغيير طبيعة العلاقة بين نظام الحكم والشعب

مما لا شك به أن ثقة المواطنين بما توفره الحكومة من خدمات وبما تعلنه القيادة من استراتيجيات ليست بأعلى مستوياتها بعد 20 سنة عن أوسلو والتفاوض السياسي الذي بات يقتنع الجميع انه فشل كمشروع تحرري ونجح كمشروع استعماري. كما وأن فعالية أجهزة السلطة المدنية (ما عدا الأمنية والمالية منها) ليست مقنعة لغالبية المواطنين حتى أن بعضا منهم يرون في السلطة وهما ًومناصب وانتفاعا وتبذيرا. لذلك فإن النهوض بمقاطعة فعالة يشارك فيها المواطن والتاجر والمزارع والصناعي والموظف والشرطي والوزير يقتضي ضمناً تغيير في أداء السلطة والقيادة الفلسطينية وفي رؤية المواطن الشكاك تجاهها والعكس كذلك صحيح: أن تصعيد الهبات الشعبية والحملات المتواصلة تزيد الضغط على النظام السياسي للتجاوب للرغبات والمطالب الجماهيرية الواسعة، على افتراض أنه نظام ديموقراطي تسيره مواقف غالبية الجماهير، كما أنها يشكل أداة رقابة شعبية على التجار ‘المنتفعين’ والمهربين. ومن المؤكد أن تغيير إيجابي في علاقة المواطن بالحكم من خلال تجديد الأخير وإحياء روحه النضالية الذي تراجع بعد إخفاقات انتفاضة الأقصى وسنوات الحكم الرشيد و’بناء الدولة’، يعتبر من مقومات نجاح أية حملات مقاطعة شاملة وانفصالية أوسع التي ستتطلب عدة سنوات من التضحيات المادية والترويج والإدارة النشطة والمنفتحة على المشاركة الجماهيرية ومزودة بالموارد اللازمة لإحداث تغيير جوهري في العلاقة مع المحتل، بل في إمكانية التحرر من قبضته الاقتصادية على الأقل.

4- تصعيد أعمال الانتفاضة الشعبية

مع أننا لم ندخل هنا بجميع الوسائل المتاحة لإسرائيل لمعاقبة الشعب والاقتصاد الفلسطينيين في حال تم تشهير وتوظيف سلاح المقاطعة بشكل مؤذي، خاصة إذا كانت مخالفة صريحة لبنود اتفاقية باريس (بالالتزام بعدم اتخاذ إجراءات قد تضر تجارة الطرف الآخر)، فإن الأسلحة المالية والتجارية المتوفرة لديها عديدة (من وقف تحويل المقاصة، إلى فرض مقاطعات مضادة أو عرقلة التجارة الفلسطينية العابرة لإسرائيل مع الأسواق الأخرى). وفي حال تصعيد المواجهات الدائرة منذ تشرين الاول 2015، أو نشوب مواجهات بين قطاع غزة وإسرائيل، فإن ذلك سيكون له أثر سلبي مباشر في تعقيد فرص تخطيط وتنفيذ مقاطعات انتقائية أو قطاعية وخلخلة أداء المؤسسات الرسمية من جهة وتعظيم الخسائر الاقتصادية جراء الإجراءات الإسرائيلية الانتقامية من جهة أخرى. بينما في المدى المتوسط فإن روح التضامن والتكافل الوطني ستنتشر، كما وأن التعبئة العامة المتوقعة في حال تدهور الأوضاع أمنياً أو تعرض مجتمعات محددة للاعتداء (القدس، غزة، مخيمات)، ستخلق بيئة حاضنة ممتازة لتجديد المبادرات الشعبية للمقاطعة ولدعم المنتج الوطني وإحلال الواردات من إسرائيل، كما ستشكل عنصر ضغط على السلطة لتقوم بدورها (المحدود أو الأوسع طموحاً) بالإضافة إلى تشكلها مبرر جديد للمطالبة بتوسيع رقعة المقاطعة الدولية للاحتلال الإسرائيلي وعزل إسرائيل دولياً.

إذا اعتمدت الاستراتيجيات المقترحة أعلاه على مختلف الأصعدة من ابسطها إلى أكثرها شمولاً، سيتطلب ذلك توزيعا متفقا عليه للأدوار وتنسيقا الحملات، في سياق سياساتي يخفف قدر الإمكان من الخسائر الاقتصادية ويعظم من المكاسب المتوقعة السياسية والتنموية المحتملة في الميزان الاقتصادي السياسي للصراع مع الاحتلال. دون الإقرار بتلك المعادلة مسبقاً لن يتحول سلاح المقاطعة إلى أكثر من مصدر إزعاج لإسرائيل، أي أنه يجب على القيادة الفلسطينية قبل غيرها من القوى الفاعلة الاستدراك بأن النضال التحرري يتطلب تضحيات مادية مؤقتة مقابل إنجازات سياسية (مواجهة إسرائيل دون استخدام العنف) واقتصادية (بناء قدرة إنتاجية لا بد منها لضمان الأمن القومي الاقتصادي). وإذا التزمت القيادة الفلسطينية بهذا ‘العقد الاجتماعي’ الجديد فإن ذلك سيتلقى بالتأكيد استعداد جماهيري واسع للانخراط بالمقاطعة لكي تصبح مؤثرة، وتعاون من القطاع الخاص مهما يضطر لمعاودة حساباته التجارية الضيقة بخصوص العلاقة مع إسرائيل.

 

المصدر: السفير 

مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة "Gaza Writes Back"

  !israel is a piece of shit and they know ittwitter.com/ThisIsGaZa/status/595385208385449985/photo/1 




تغريدة "عاصم النبيه- غزة"

 عندك القسام وبتأيد داعش؟ روح استغفر ربك يا زلمة.. #غزةtwitter.com/AsemAlnabeh/status/595507704338186240
 




تغريدة "أحمد بن راشد بن سعيد"

القاهرة تنتفض ضد قرار تقسيم #فلسطين عام 1947.كان زمان!لكن تظل #فلسطين_قضيتناtwitter.com/LoveLiberty/status/594548013504307200/photo/1




تغريدة "Joe Catron"

 Take a moment to thank "@MsLaurynHill" for cancelling her concert in occupied Palestinetwitter.com/jncatron/status/595337215695192064/photo/1




تغريدة "Dr. Ramy Abdu"

 المغنية الأمريكية المشهورة لورين هيل تلغي حفلها الفني في "إسرائيل" بعد حملة واسعة لنشطاء حركة المقاطعة.twitter.com/RamAbdu/status/595530542910742528




تغريدة "النائب جمال الخضري"

في #غزة يقهرون الإعاقة ويلعبون الكرة الطائرة أطرافهم بترت اثناء الحرب على غزة لا يأس ولكن عزيمة وصمود لهم التحية.twitter.com/jamalkhoudary/status/595520655858147328





 

حسام شاكر

الإبداع في ذروته .. رفعت العرعير مثالاً

أيُّ إبداعٍ يُضاهي أن تُنسَج القصيدة المعبِّرةُ من نزفِ شاعرها أو أن تصير الكلمات المنقوشة بالتضحيات العزيزة محفوظاتٍ مُعولَمة في … تتمة »


    ابراهيم العلي

    في ظلال يوم الأرض الفلسطينون : متجذرون ولانقبل التفريط

    ابراهيم العلي

     يعد انتزاع الاراضي من أصحابها الأصليين الفلسطينيين والإستيلاء عليها أحد أهم مرتكزات المشروع الصهيوني الاحلالي ، فالأيدلوجية الصهي… تتمة »


    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية..
صامدون - عاملون - عائدون
    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية.. صامدون - عاملون - عائدون